بقلم: ذ. محمذن ولد المحبوب
قراءة في مقررات المحظرة ورحلات العلم
نود في هذا البحث أن ننبه إلى بعض الروابط الثقافية التي جمعت بين بلاد شنقيط ومناطق المغرب الأقصى، ساعين في تلمس قنوات العلم وصلات المعرفة التي ربطت بينهما، مبيّنين مختلف العلاقات المعرفية التي ربطت بين المنطقتين حيث كانت المؤلفات المغربية من أسس المقررات في المحظرة الموريتانية. ثم إن الشناقطة كثيراً ما يرتحلون إلى المغرب، أو يمرون به في رحلاتهم إلى الحج. فقد تلبثوا هنالك غير يسير، محاورين نظراءهم من العلماء، محاولين الإفادة والاستفادة، مراوحين في الوقت نفسه بين الأخذ والعطاء، والتقبل والإلقاء. فمتى امتدت ينابيع المعرفة والحكمة بين البلدين؟ وبأي طريقة استطاع العلماء نسج تلك العلاقات الثقافية المتميزة؟ وكيف كان عاقبة سعي هؤلاء؟ ثم من الوجوه الثقافية التي فعلت فعلها في هذا التحاور الثقافي؟
ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الصفحات مقسمين الموضوع إلى قسمين: في أولهما نعرض لبوادر الاتصال وللمقررات المحظرية، وفي ثانيهما نتناول رحلات العلم.
أولاً: بوادر التواصل والمقررات المحظرية
أ ـ بوادر التواصل
ولا بأس أن ندشن هذا التواصل بتلك الصَّرخَةِ المدوية التي أطلقها القائد يحيى بن إبراهيم الكدالي([1])، وهو بالقيروان مستنجداً بمعارف أبي عمران الفاسي([2])، وذلك حين قال:
.. ما لنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب لأننا في الصحراء منقطعون، لا يصل إلينا إلا بعض تجار جهال حرفتهم البيع والشراء، ولا علم عندهم، وفينا قوم يحرصون على تعلم القرآن وطلب العلم ويرغبون في التفقه في الدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً. فعسى ـ يا سيدي ـ أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا ديننا ([3]).
فاستجاب أبو عمران لهذا النداء وأحال الرجل على تلميذه وجاج بن زلو اللمطي الذي انتدب له الفقيه عبد الله بن يس الجزولي([4])، مؤسس الرباط ومدشن أول حلقة تدريسية بالبلاد حسب المعلومات المتوافرة إلى يوم الناس هذا. ولا ننسى أن الأمير أبا بكر بن عمر اصطحب معه في عودته من المغرب الإمام أبا بكر محمد بن الحسن الحضرمي (ت 489 هـ) والفقيه إبراهيم الأموي الذي كان معلماً وقاضياً في مجلس الأمير([5])، وهؤلاء الثلاثة هم أصل انتشار العلوم الدينية في قبائل موريتانيا في ذلك العهد. ثم جاء الشريف عبد المؤمن، مؤسس قرية تيشيت وجد شرفائها المعروفين، ومعه الحاج عثمان، أحد مؤسسي قرية وادان، وكانا قرآ على القاضي عياض المتوفى في مراكش سنة 554 هـ؛ فانتشر عنهما العلم واتسع نطاقه([6]). وبذلك نعلم أن الفضل في التئام الحصص الدراسية الأولى بالربوع الشنقيطية يرجع إلى أهل المغرب الذين ظلوا على مر الأيام يمدون هذه البلاد بنافع العلم ونادر الحكمة. فقد وصلت المؤلفات المغربية إلى الساحة الشنقيطية في وقت مبكر وفي مقدمتها رسالة “الأجرومية”، وإن كنا لا نعلم بالتحديد تاريخ وصولها إلى البلاد. إلا أن المعلومات المتوفرة تشير إلى أن أول إشارة إليها ترجع إلى أواسط العقد الرابع من القرن العاشر، حيث ذكر البرتلي في كتابه “فتح الشكور” »أن عبد الله بن محمد الغيث المحجوبي (ت 937 هـ) قد شرح “الأجرومية”«([7]).
ومعنى ذلك أن هذه الرسالة النحوية كانت حاضرة في الدرس الشنقيطي منذ فترة. فمن المفترض ألا يتم شرحها إلا بعد التمكن منها وتقبل الناس لها؛ فلعلها وصلت البلاد في القرن التاسع الهجري، فظلت على مستوى المقررات والدرس، ولم تمتد إليها أنامل العلماء للشرح والتعليق إلا ابتداء من التاريخ المذكور. والعلم عند الله. ومن كتب النحاة المغاربة التي بلغت إلى البلاد في هذه الفترة كتب المكودي (ت 807 هـ)، خاصة شرحه للـ”ألفية”. وكتابه “التبسيط والتعريف في فن التصريف” اللذين قدم بهما محمد سعيد بن تكدي اليدالي ([8]) في رحلة عودته من المغرب. وقد كان “شرح المكودي على الألفية” من مراجع المختار بن بونه في كتابه “الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة”. فهو يقول في طرته ناقلاً عن المكودي قوله: »ورد علينا تلميذ من أهل العراق ينشد بيتاً ثامناً للخطبة، وهو ([9]):
فـمـا لـعـبــد وجــل مــن ذنــبـــه
غــيـر دعــاء أو رجــاء ربـــــه«.
بعد هذه الفترة، توافدت على الساحة الشنقيطية مؤلفات الفقهاء المغاربة، وخاصة “منظومة ابن عاشر”، و”النهاية والتمام في معرفة الأحكام” للمتيطي، و”شفاء الغليل” في حل مقفل خليل لابن غازي، و”الطرر” لأبي الحسن الطنجي، و”النوازل” للهلالي. وذلك ما أوضحـه النابغـة الغلاوي([10]) في منظومتـه المعروفة بــ »بوطليحة« والتي طبعت بالمطبعة الملكية بفاس (1282 هـ/ 1865 م). يقول([11]):
ورجحوا ما شهر المغاربة
واعتمدوا المتيطي والزواوي
واعتمدوا الطرر لابن الأعرج
واعـتـمــدوا نــوازل الـهــلالــــي
والشمس بالمشرق ليست غاربه
كذا ابن سهل عند كل راوي
وطرر الطنجي غير بهرج
ودره الــنـثـــيـــر كـــالّـــلآلــــي
ب ـ المقررات المحظرية
ولنأخذ الآن في الحديث عن حضور المؤلفات المغربية في المقررات الشنقيطية، متتبعينها حسب المادة والاختصاص، متناولينها عبر النقاط التالية:
ـ القرآن وعلومه
ومن أبرز الكتب المغربية المقررة في علوم القرآن “الدرر اللوامع في أصل مقرإ الإمام نافع” لعلي بن محمد بن بري.
فقد أشار أحد الباحثين إلى أن هذا الكتاب كان معتمداً ومتداولاً بشكل كبير وأورد أحد عشر شرحاً من الشروح الشنقيطية عليه، أولها شرح عبد الله بن الحاج رحمة الله الغلاوي([12]).
وفي هذا الإطار يتنزل ذلك اللغز الذي بعث به ابن رازكه إلى أهل فاس سائلاً عن مرجع الضمير في قوله تعالى: {ثم اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أخيِهِ} (سورة يوسف، الآية 76)، حيث يقول([13]):
شُيوخَ البيان الذائقين حلاوة
سلام من الله السلام ورحمة
سلام غريب دون شنقيط داره
قراه لديكم أهل فاس جوابه
أسائـلكـم مـا سـر إظـهـار ربـنـــا
من العلم لم تطعم لغير ذويه
يعمانكم من خامل ونبيه
من البعد تيه يتصلن بتيه
بنص بيان في البيان وجيه
تـبـارك مـجـداً مـن وعــاء أخـيــه
وقد أجاب عن هذا اللغز محمد بن سعيد اليدالي بقوله([14]):
سؤال بليغ في البيان نبيه
عن السر في إتيان ربي بظاهر
معمى قد أعيا أهل فاس وغيرهم
فقلت وبالله والصواب مجاوباً
فهذا بحمد الله إيضاح لغزه
فلو قال فرضاً ربنا »من وعائه«
يؤدي إلى عود الضمير ليوسف
لأن الضمير في الصناعة عائد
وإن قال منه اختل أيضاً لأنه
فتنزع منه الصاع لا من وعائه
لمـا في انـتـزاع مـن أذى ومهـانـــة
أديب من أرباب الهدى وذويه
مكان ضمير في وعاء أخيه
فكنا بحمد الله مفتتحيه
له بقياس في الأصول وجيه
مساو له في بحره ورويه
فذلكم بعد التفكر فيه
فيفسد معناه لمختبريه
لأقرب مذكور هناك يليه
يؤدي لعود مضمر لأخيه
وتأنف من ذا نفس كل نزيه
ولـم يــرد الـرحـمــن ذا بـنـبـيـــه
وللشوشاوي المغربي نظم في القراءت شرحه أحمد بن زياد الديماني (ت 1322 هـ)؛ كما نجد النابغة الغلاوي ينظم من الشوشاوي أحكام اجتماع الذكور الصغار مع الإناث في المكتب لدراسة القرآن. يقول([15]):
ومس بعضهم للوح البعض لا
وما لهم مشي إلى المساجد
مكلف وليست الجماعه
والأجر لا تنقصه الإجاره
هـذا الـذي قـال بــه الشـوشــاوي
إثم ولكن كرهته النبلا
بل يجمعوا بشيخهم أو واحد
لشيخهم خوفاً من الضياعه
بشرى لنا بهذه البشاره
وهـو الـذي جـرت بــه الـفـتـاوي
وفي مقطع آخر من هذه المنظومة يبين النابغة حكم إجازة تلاميذ القرآن. يقول([16]):
وكلمة في رُبُعٍ أو أربع
نـص عـلـيـه شيخنـا الجـزولـي في
في الحزب لا تضر في الحفظ فعوا
مسـبـعـه فـانـظــر فـيـه إن خــفـى
ـ المقررات النحوية واللغوية
من أبـرز هـذه المقـررات وأكثرها حضـوراً رسالـة ابن أجـروم المعروفـة بـ “الأجرومية”. فقد عول عليها الموريتانيون كثيراً، فشرحوها وعلقوا عليها ونظموها. أما شروحها، فقد ناهزت الثلاثين. وأما أنظامها، فقد وقفنا على أربعة منها، أشهرها نظم محمد بن اب الغلاوي المعروف بـ »عبيد ربه« (ت 1109 هـ) والذي نالت منظومته بين الموريتانيين شهرة واسعة، وكادت أن تصبح عوضاً عن “الأجرومية” وبدلاً منها، وتجاوزت شروحها العشرة (11 شرحاً). ويتنزل في هذا السياق “شرح المكودي للألفية” الذي قدم به من المغرب محمد سعيد بن تكدي اليدالي (ق 10 هـ)، وهو أول من جلب النحو إلى القبلة. يقول أحمد سالم بن أبي بكر بن إمام اليدالي متحدثاً عن بعض البطون المنقرضة من قومه([17]):
وانقرضوا ومنهم السعيد
أول من للـقـبـلـة الـنحـوَ جـلـــب
نجل تكدي العالم الفريد
وما لــه ســوى ثـلاث تـنـتشــب
والجدير بالذكر أن هذا اليدالي أورث النحو حفيده المختار بن بونه معلم النحو الأول في البلاد ومؤلف “الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة”. وهذا ما أكده اللبناني يوسف مقلد حيث يقول: »هذا، وقد بلغ النحو أوجه في تلك البلاد. ولا نعلم دخول النحو إلى موريتانيا؛ إلا أن محمد سعيد اليدالي كان أول من جلبه إلى القبلة في القرن العاشر الهجري. ولذا سمي بالنحوي ومنه رضعه حفيده المختار بن بونه الذي انتهت إليه رئاسة علم النحو«([18]). وفي هذا السياق نشير إلى أن المولى عبد الحفيظ شرح طرة المختار بن بونه على “الألفية” بكتابه المسمى “القول المختار على الألفية والاحمرار”. وهذا ما يدل على أهمية كتاب ابن بونه الذي نال شهرة عجيبة. ومن الجدير بالذكر أن هذا السلطان نظم “مغني اللبيب” نظماً طالعه الموريتانيون واعتمدوه. وقد شرحه سيدي محمد الأغظف الوسري الحوضي ([19]).
ولا ننسى هنا أن بعض الأدباء المكناسيين سأل ابن رازكه عن معنى بيتين من الشواهد النحوية، وهما ([20]):
رأت قمر السماء فذكرتني
كـلانــا نــاظـر قـمـــراً، ولـكـــن
ليالي وصلنا بالرقمتين
رأيــت بـعـيـنـهــا ورأت بـعـيـــن
ومن المقررات المعجمية عندهم “إضاءة الأدموس في مصطلح القاموس” للهلالي. فقد نظمها سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم؛ كما شرحها محمد محمود بن عبد الفتاح، ونظمها أيضاً محمد الأمين بن الحجاجي.
ومن المقررات اللغوية عندهم قصيدة “الشمقمقية” لأحمد بن محمد التواتي الحميري، وشرحها “زهر الأفنان” لأحمد بن خالد الناصري صاحب “الاستقصا”. وقد شرح هذه القصيدة من الموريتانيين محمد بن أحمدو فال. ومن النصوص المعتمدة عندهم في هذا الجانب بائية سيدي أحمد زروق التي مطلعها:
لـقـد كـان خـير الخلـق أبـهـر طـلـعــة
من البـدر بل من شمسـه هو ألـهب
وقد شرحها النابغة الغلاوي بــ”أنوار البروق بشرح قصيدة زروق”؛ كما شرحها محمد الأمين بن خليفة ومحمد بن محفوظ بن دهمد([21]).
ـ مقررات الفقه وأصوله
ومن أبرز المقررات الفقهية عندهم كتاب “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين” لعبد الواحد بن عاشر (ت 1040 هـ). والجدير بالذكر أن هذا النظم تدوول كثيراً بالمحاظر الموريتانية؛ وكان يمثل المرحلة الأساسية من تعليم الفقه في المدارس الموريتانية. وقد شرحه النابغة الغلاوي شرحاً سماه “المباشر على ابن عاشر”. وقد حقق في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية؛ كما شرحه أحمد بن البشير شرحاً سماه “مفيد العباد”. وقد شرحه أيضاً محمد يحيى بن سليمة. ونشير إلى أن شرح “مفيد العباد” قد نظمه الشيخ أحمدو (منَّ) بن شيخ محمد الحافظ. وقد أرخ بعضهم لوفاة ابن عاشر تأريخاً طريفاً يعتمد التورية وحساب الجمل، فأشار إلى تاريخ وفاته بفعل الأمر »شُمَّ«. يقول([22]):
»شمَ« برق ثاو لدى بير الطسوت ومن
سـلا بأخراه عن دنـيـاه عنـد سـلا
ومن المقررات الفقهية المعتمدة عندهم “لامية الزقاق” في القضاء. فقد بلغت شروح الشناقطة عليها أكثر من العشرة. ومن المقررات في جانب القواعد الفقهية نذكر كتاب “المنهج” للزقاق، و”تكميل المنهج” لميارة. وقد عمل الشناقطة على شرح هذين الكتابين. فمن الذين شرحوا “المنهج” محمد محمود بن حبيب الله بن القاضي ومحمد امبارك اللمتوني، ومحمد الأمين بن أحمد زيدان، وعبد القادر بن محمد سالم. أما الذين شرحوا “تكميل المنهج”، فنذكر منهم أربعة وهم: محمد يحيى الولاتي، ومحمد امبارك اللمتوني، ومحمد يحيى بن سليمة، وزين بن حمد اليدالي([23]).
ومن المؤلفات المغربية الحاضرة في الساحة الشنقيطية “البيان المغرب في فتاوى إفريقية المغرب” لأحمد بن يحيى الونشريسي، و”أجوبة محمد بن ناصر الدرعي”، و”حاشية التودي والبناني على الزرقاني”، و”نوازل الورزازي”. ونشير إلى أن الشناقطة لم يقفوا من هذه المؤلفات موقف المقلد الناقل وإنما نظروا إليها نظر المحقق المتبصر. فنجد النابغة الغلاوي مثلاً في منظومته “بوطليحية” ينوه بآراء البناني والتودي، مبيناً رأيه في “أجوبة ابن ناصر” و”نوازل الورزازي” ضمن أسلوب نقدي يبرز قيمتها ويضعها في الميزان. يقول([24]):
واعتمدوا “المعيار” لكن فيه
ولا يتم نظر “الزرقاني”
وجمعهم “أجوبة ابن ناصر”
وهــكــذا “نــوازل الــــورزازي”
أجوبة ضعفها بفيه
إلا مع “التودي” أو “البناني”
لم يكن الشيخ له بناصر
لم تـخـل مـن قـول بــلا إعـــــزاز
ومن الكتب المعتمدة عند القوم أيضاً مؤلفات ميارة وشروحه. فكانوا يكثرون العزو إليها. من ذلك أبيات لمحمد يحيى بن ابوه الموسوي يبين خلالها حكم نية الفرض المعاد، محسناً العزو إلى ميارة. يقول([25]):
في نية العود للمفروض أقوال
فإن يفوض يعد ما منهما بطلت
ميـارة انظـره والتفـويض أشهـرهـا
فرض وندب وتفويض وإكمال
والفرض أخرى وغير غيرها قالوا
وقال في كل ذي الأقـوال إشكـال
ـ مقررات السيرة والتصوف
من المقررات المعتمدة في السيرة عندهم “قرة الأبصار في سيرة النبي المختار” لعبد العزيز اللمطي. وقد بلغت شروح الموريتانيين عليها أحد عشر شرحاً. كما اعتمدوا كثيراً على كتاب “الشفا” للقاضي عياض، فقد كان أهل ولاته يتدارسونه في شهر رمضان يوميّاً فيما بينهم. وأكثر من ذلك، فإن الموريتانيين اعتبروا مؤلفه نموذجاً أعلى في السيرة والحديث. يقول أحمد بنب بن المختار ولد أحمد ولد المين بن أحمد بن العاقل في رثاء زين بن أحمد([26]):
أرى الأيام تقذف بالعراض
وتسلبك المحبب لا إليها
أتانا أنها أخذت بزين
بزين العابدين لدى المصلى
وزيــن الآخـذيــن عـلـى أويــــس
وتنتقر النفائس من قراض
وتشري العلق منك بلا تراض
إلى ذات اليمين طريق ماض
وزين الحاكمين لدى التقاضي
وزيـن الـمســنـديـن إلـى عـيـاض
ويتجلى اهتمام الموريتانيين بكتاب “الشفا” في مواظبتهم على قراءته تيمُّناً واستسقاء عند احتباس المطر. فيقرأونه في رمضان وفي المساجد؛ كما يفعلون ذلك لـ”صحيح البخاري”([27])، الذي اعتمدوه مصدراً من مصادر السيرة النبوية ومقرراً من المقررات المحظرية. فيذكر البرتلي في كتابه “فتح الشكور”، خلال ترجمته لبعض الرجال، أنهم كانوا يدرّسون “الشفا” للقاضي عياض. من ذلك مثلاً قوله في ترجمة محمد بن المختار بن الشواف المسلمي (ت 1175 هـ): »كان محدثاً يسرد “صحيح البخاري” في شهر رجب وشعبان في المسجد و”الشفا” للقاضي عياض في رمضان«([28]). ومن المراجع المعتمدة عندهم في هذا الجانب “دلائل الخيرات” المعروف بـ “شوارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار” لمحمد بن سليمان الجزولي. فكانوا يدمنون قراءته تيمناً به، لما اشتمل عليه من الصلاة والسلام على النبي r المأمور بها كتاباً وسنة وإجماعاً، والمرغب كذلك في الإكثار منها. وقد بلغ بهم الأمر أن حاكوه وحاذوه. من ذلك مثلاً “الوسيلة الكبرى” لمحمد اليدالي. فقد صرح بأنه اقتطفها من “دلائل الخيرات” وزاد عليه. كذلك الشيخ المختار الكنتي في كتابه “نفح الطيب في الصلاة على النبي الحبيب”، ولمرابط محمد سالم بن ألما في كتابه “سبائك اللجين في الصلاة على سيد المرسلين” وغيرهم. وزيادة على ذلك، نجد الشيخ محمد المامي ينظم “دلائل الخيرات” نظماً يقول في مقدمته([29]):
صلى على نبيه وسلما
وصحبه الأئمة الأعلام
على تمام القصد والإحسان
لصلواتنا على الرسول
لحفظهم “دلائل الخيرات”
لا سـيـما أن كـان كـالــدلائــــل
الحمد لله على ما ألهما
وآله كواكب الظلام
وبعد فالعونَ من الرحمن
نظماً على رواية الجزولي
سميته “تذكرة النجاة”
والـنـثــر حـفـظــه مـن الـقـلائــل
ثانياً: رحلات العلم
نشير إلى أن الارتحال عبر الطريق المغربي قد نما وازدهر كثيراً، خاصة أثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين أيام كان هذا الطريق عماد النشاط التجاري ومنطلق الحركة العلمية ومسرح التبادل المعرفي، فمثل ـ بحق ـ صلة الربط والاتصال بين المغرب وموريتانيا؛ فتضاعفت الرحلة عبره، وتنامت مشكلة نماذج مختلفة بعضها ينتهي إلى المغرب، والبعض الآخر يتخذ منه محطة تزود وعبور نحو المشرق. وسنستعرض أثناء حديثنا جملة من هذه النماذج، ذاكرين أولاً عدداً من الذين انتهى بهم المسير إلى المغرب لنتناول بعد ذلك بعض الذين مروا بأرضه آمِّين البيت الحرام. وسنقسم هذه النماذج إلى قسمين: أولهما يهتم بالرحلات غير المدونات، وثانيهما يعول على تلك المدونات.
أ ـ الرحلات غير المدونات
ونقصد بها تلك الرحلات التي قام بها بعض العلماء ليساهموا من خلالها في نشر الثقافة الشنقيطية. وقد عملوا جهودهم على محاورة العلماء، لكنهم لم يدونوا شيئاً من مشاهداتهم ولا مجالسهم العلمية. فحرمونا بذلك من الاطلاع على تفاصيل تلك الرحلات.