نشأ التحالف الدولي علي عجل، وبلا استراتيجية واضحة، فالرئيس الأمريكي نفسه هو من قال “ليس لدينا استراتيحية للحرب علي داعش”. كان أوباما المتردد يقول عن تنظيم الدولة الإسلامية إنهم “لاعبو اسكواش صغار”، ومن ثم فإنهم لا يمثلون تهديدا للأمن القومي الأمريكي. ثم اضطر أوباما – المحمل بمواريث المحافظين الجدد وحروبهم، واقتحاماتهم لأفغانستان والعراق، وتطبيق نظريتهم عن صدام الحضارات – أن يكون مترددا لا يفضل استخدام الحرب، فلم يكن يود استخدام الحرب ضد “داعش”. وكان يري أن الطرق البيروقراطية التقليدية المستندة إلي استخدام الطائرات “الدرونز”، واستهداف قادة القاعدة كافيان لدحر “داعش”، وأنه لا ضرورة لبناء استراتيجية استباقية لمواجهة التنظيم الذي جعل من سوريا ملاذا آمنا له مكنه من التوحش والتمدد إلي العراق، وإسقاط جيشه، والسيطرة علي مدنه، وسدوده. كان غياب سياسة خارجية أمريكية فعالة تجاه المنطقة والتنظيم سببا قويا لاكتمال التنظيم لأدواته، والوقوف علي قدميه ليصبح أهم جاذب لحاملي جوازات السفر القادمين من أوروبا وأمريكا، والشباب المحبط، والمهمش، والباحث عن مغامرة، أو هوية جديدة لنفسه من العالم العربي.
وتتناول هذه الورقة ملامح الاستراتيجية الأمريكية تجاه الحرب علي “داعش” ومؤشرات فاعليتها، وكيف أسهمت الولايات المتحدة في نشأة تنظيمات العنف، بداية من القاعدة في أفغانستان، وانتهاء بـ”داعش”، وكيف أن الحروب الأمريكية قد أسهمت في زيادة مساحة التطرف والغلو، طارحا الشروط الواجبة لضمان فاعلية التحالف الدولي في مواجهة الإرهاب.
أولا- الاستراتيجية المتغيرة والفاعلية المحدودة:
تتصف الاستراتيجية الأمريكية تجاه التحالف بأنها متغيرة، ومتقلبة، وغير واضحة، لكنها – في التحليل الأخير – تتسم ببعض الملامح التي أنتجت تحالفا ذا فاعلية محدودة.
1- الاستراتيجية المتغيرة: حيث تحدث البعض في هذا السياق عن أن وجود “خطة سيئة أفضل من غياب الخطة علي الإطلاق”، جاء ذلك في معرض حديث الرئيس الأمريكي عن غياب استراتيجية لمواجهة التنظيم. فقد كان مشهد قتل الصحفيين الأمريكيين جيمس فولي، وروبرت ساتلوف مروعا وصادما للرئيس الأمريكي، ودفعه للقول “إن لاعبي الاسكواش الصغار في سوريا قد بلغوا مبلغ الرجال، وإنهم صاروا يمثلون خطرا علي الولايات المتحدة الأمريكية”، فقتل الصحفيين هو بمنزلة إعلان حرب علي أمريكا”. كما أن استطلاعات الرأي الأمريكية أظهرت ميولا قوية لمواجهة التنظيم في سوريا والعراق، ومن ثم وضع الرئيس استراتيجيته علي عجل وعلي كره منه. والاستراتيجيات التي يتم بناؤها علي استعجال تفتقد الدقة، والخطط الواضحة، والبرامج المعدة سلفا، والمعلومات التي يمكن الاستناد إليها، وكذلك تفتقد الحلفاء المشاركين الذين يظهرون الاقتناع والهدف أنفسهما، فلكل حليف تقديره المختلف لمصلحته القومية، والتي لا تتطابق بالضرورة مع التقدير الأمريكي. وهو ما بدا واضحا في الموقف التركي من الدخول في التحالف، حيث طرحت أنقرة شروطا، كان علي رأسها إسقاط نظام الأسد، وفرض مناطق عازلة لاستيعاب اللاجئين، وعدم تسليح الأكراد، حتي لا يرتد ذلك في وجه تركيا التي تواجه مشكلة مع حزب العمال الكردي.
وتعد إسهامات الدول العربية المشاركة في التحالف الدولي ذات أهمية بالغة، حتي لا يصف السلفيون الجهاديون والإسلاميون بشكل عام هذه الحرب بأنها حرب صليبية علي العالم الإسلامي ، كما كان الحال بالنسبة لحروب جورج بوش الابن. ومع ذلك، فهناك تباينات في الرؤي بين تلك الدول العربية والولايات المتحدة، حيث تري الأخيرة أن دولتين من هذه الدول – قطر والسعودية – قد لعبتا دورا في دعم التشدد والغلو في سوريا، حيث اتبعت قطر سياسات راديكالية صبت بشكل مباشر في مصلحة تنظيم الدولة الإسلامية، كما أن السعودية دعمت في وقت من الأوقات جبهة النصرة ، فضلا عن دعم وجهاء في البلدين لقوي التطرف في سوريا بما في ذلك تنظيم “داعش”. وتري هذه الدول -السعودية وقطر- وهي محقة، أن الولايات المتحدة رفضت الاستجابة لضغوطها لإسقاط نظام الأسد الذي يعد أحد أسباب ظهور التنظيم الخطير، كما رفضت الالتفات إلي خطر “داعش” حين وقف علي قدميه وأصبح خطرا، وأعلن دولته الممتدة علي آلاف الكيلومترات في سوريا والعراق، منذ أواخر عام .2012 كما أن إعلان الخلافة ودولتها في الواقع يعد منازعة لشرعية وتفرد المملكة السعودية -علي وجه الخصوص- بحسبانها ممثلة للدولة التي تطبق الشريعة، وتقيم حدودها.
كما يذكر رايان كروكر، السفير الأمريكي المخضرم في العراق وأفغانستان، أن “داعش” هو قدر الولايات المتحدة الأمريكية الذي لا يمكنها الفرار منه، وعليها مواجهته”. هذا السفير المخضرم وصف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بأنه القاعدة، بيد أنه يتعاطي المنشطات. كل هذا ومشاعر الخوف كانت تحيط بالرئيس، رغم تقديرات الجمهوريين وقادته العسكريين بخطر التنظيم. بيد أن مشاعر الخوف كانت تلجم الرئيس عن التحرك، وهو ما أعطي فرصة للتنظيم لكي يتمدد، ويتوسع، ويفرض نظريته عن ” إدارة التوحش ” في المناطق التي سيطر عليها في سوريا أولا، ثم توجه بمفهوم التوحش ذلك إلي العراق، حيث سقطت أمامه منظومة المالكي الطائفية التي أسس الجيش العراقي علي أساسها في مواجهة السنة، وليس من أجل المصالح العليا للدولة العراقية.
وقد جعلت مشاعر الخوف تلك الرئيس الأمريكي يقول بوضوح إن الضربات الجوية هي سبيله الوحيد لمواجهة التنظيم، وإن نزول قوات برية علي الأرض خط أحمر لن يقبل به، وإن استراتيجيته تقوم علي إعادة تأهيل وتدريب الجيش العراقي، ومد الأكراد بالسلاح والتدريب، وتدريب القوي المعتدلة في سوريا من أجل مواجهة سطوة القوي المتطرفة الغالبة. وقد جعلت مشاعر الخوف والتردد هذه الرئيس أوباما يتحدث عن “داعش” أولا كخطر إنساني في مواجهة ما يفعله ضد الأقليات اليزيدية والمسيحية، ثم جاء الحديث عن مواجهة عسكرية عبر الجو بعد اقتحام “داعش” الموصل، واقترابه بشكل كبير من العاصمة بغداد، ثم حديثه عن مواجهة التنظيم في العراق دون سوريا، دون إدراك أن مخاطر التنظيم في سوريا بالأساس هي التي قادت إلي تمدده في العراق. فجيبوليتيكا، لا يمكن النظر إلي العنف والانتقال بين الدولتين بصورة منفصلة عن الأخري. وقد فاجأتنا استراتيجية التحالف بتدشين الضربات الجوية في سوريا، وجعلها ضمن خطة استراتيجية التحالف لمواجهة التنظيم، بدعوي مواجهة ” جماعة خراسان” ، بحسبانها خطرا وشيكا يهدد الولايات المتحدة في عقر دارها، وأن جماعة “خراسان” أكثر تهديدا لأمن الولايات المتحدة من تنظيم “داعش”، لأن جماعة “خراسان” مهتمة بضرب العدو البعيد، وهو الولايات المتحدة في عقر دارها، وليس العدو القريب، وهو بشار الأسد، بإسقاطه، وأن الجماعة كانت تهدف لتمرير قنابل لا يمكن رصدها عبر مقاتلين غربيين إلي داخل الأراضي الأمريكية والدول الغربية لتفجيرها هناك. وبدا بعد ذلك أن هذه تقديرات مبالغ فيها، وهي تعبير عن تخبط في استراتيجية التحالف الدولي، وغياب الأولويات الواضحة لديه.
كما يمكن الإشارة إلي أن التحالف يشارك فيه أكثر من ستين دولة، منها خمس دول عربية واضحة، وهي السعودية، والإمارات، والأردن، وقطر، والبحرين، وهناك دول أخري عربية كالمغرب مثلا لم تلتزم بشيء محدد في الاستراتيجية العامة للتحالف. كما أن مصر أبدت استعدادها لتقديم دعم فكري ومخابراتي. وبالتالي، فإن هذا العدد الضخم من الدول يعطي معني للضخامة أكثر منه للفاعلية. فدول الاتحاد الأوروبي مثلا لم تستقر علي رؤية محددة تجمعها جميعا، ولكن تفاوتت رؤاها بين فرنسا المندفعة، وألمانيا المتحفظة، وبريطانيا التي انتظرت موافقة برلمانها. ومن ثم، فإن كل دولة تري ما تراه مناسبا لرؤيتها وظروفها. ورغم أن جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، عين الجنرال جون آلن ليكون قائدا لقوات التحالف الدولي، فإننا لا نري بنية هيكلية للتحالف، ولا نعرف هل يقود هو وحده تلك القوات، أم أن هناك غرفة عمليات مشتركة، فهو بالتأكيد منسق للتحالف، وليس قائدا بالمعني العسكري المهني. ومن ثم، فإن التحالف معني واسع لا نعرف المكان الذي تتموضع فيه قيادته، وإذا كان توماس فريدمان تحدث عن قيادة الولايات المتحدة لعمليات حلف الأطلسي في ليبيا من الخلف، وقيادتها للحرب في أفغانستان بالقيادة من الأمام ، واقترح القيادة من الداخل، فإن قيادة الولايات المتحدة للتحالف الدولي لا يبدو لها مكان واضح، ولا موقف محدد.
2- الفاعلية المحدودة: حيث توجد العديد من المؤشرات التي توضح مدي محدودية فاعلية التحالف الدولي، والتي يمكن رصدها في عدد من النقاط الجوهرية، وهي:
أ- اتفاق كل الخبراء علي أن استخدام سلاح الجو وحده لا يمكنه القضاء علي تنظيم “داعش”.
ب- هندسة استراتيجية التحالف تقوم علي أساس إرسال مستشارين وخبراء عسكريين للمساعدة في التدريب دون إرسال قوات علي الأرض، والاعتماد علي تدريب قوات الجيش العراقي في العراق، وقوات الجيش الحر، والقوي المعتدلة في سوريا.
ج- استمرار فعالية تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وإعلان أبي بكر البغدادي نفسه خليفة من مسجد بمدينة الموصل، ثم تحدث في ثاني تسجيل صوتي له عن انتشار تنظيمه، وتلقيه بيعات من الجزيرة العربية، ومصر، والجزائر، وليبيا. وأكد في تسجيله الصوتي ما عدَّه أكاذيب التحالف التي قالت إنه أصيب، وقال إن الدولة بخير، وتتمدد، وقد جاء كل ذلك تحت سمع وبصر التحالف الدولي.
د- تمرد تركيا علي قيادة التحالف وعدم انصياعها للضغوط الأميركية إلا بشروط حددتها، وهي عد إسقاط الأسد أولوية، وفرض مناطق لحظر الطيران. ويبدو أن الولايات المتحدة، في ظل اضطراب سياستها، تحاول التنسيق مع تركيا، وجذبها إلي أنشطة التحالف، خاصة ما يتصل بتدريب المعارضة السورية المعتدلة من ناحية، وإقناع تركيا باستخدام التحالف لقاعدة إنجيرليك من ناحية أخري.
هـ- غياب أولويات التحالف، وتناقض الرؤية بين الرئيس الأمريكي أوباما الذي يعطي الأولوية لإزاحة بشار الأسد وغيابه عن المشهد، بينما يتحدث وزير دفاعه عن أن الأولوية هي للتخلص من “داعش”، وأن رحيل الأسد لن يؤثر في عملية قتال التنظيم المرعب.
و- اقتناع الإدارة الأمريكية بأن استراتيجية التحالف في العراق لايمكن فصلها عن سوريا. ومن ثم، فإن الحديث عن تدريب خمسة آلاف مقاتل سوري من المعارضة اقترح أن تقوم السعودية به. ثم خبا هذا الاقتراح وتحول الأمر إلي الأردن التي يتم تدريب قوات منشقة من الجيش السوري بها. بيد أن نتائج تدريب المقاتلين المعتدلين علي الأرض في سوريا لم تظهر في ساحات القتال، حيث تتراجع القوي المعتدلة بشكل دائم أمام القوي المتشددة والغالبة، خاصة جبهة النصرة، وتنظيم الدولة الإسلامية.
ز- لم يخرج أي مسئول أمريكي ليقول أن بلاده أنجزت انتصارا ما علي تنظيم “داعش”، بل إن تصريحات المسئولين الأمريكيين الكبار، مثل وزير الدفاع ورئيس الأركان، لا تزال تتحدث عن قوة التنظيم، حيث تلامس الأموال أقدامه. كما لا يزال عنصرا جاذبا للشباب بدليل زيادة أعداده حتي قاربت أكثر من ثلاثين ألفا. كما أن حاملي الجوازات من المواطنين الغربيين لا يزالون يتدفقون علي “داعش”، خاصة من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، أهم دول التحالف.
ح- يمثل الإنجاز العسكري الذي حققه تنظيم “داعش” أهم عناصر الجذب لأعضائه المؤمنين به، ومن ثم يمثل هذا الإنجاز عاملا مستمرا للحشد والجذب لمزيد من الشباب الراغبين في الجهاد، والباحثين عن الإنجاز علي الأرض، حيث الخروج من الحياة التقليدية الراكدة.
ط- بدأ التحالف الدولي عملياته الجوية ضد التنظيم في 23 سبتمبر 2014، أي لما يزيد علي ثلاثة أشهر، ولا يزال التنظيم يحارب علي عدة جبهات، ويمثل خطرا في العراق وسوريا. ورغم آلاف الطلعات الجوية، فإنها لم تؤثر في قوة التنظيم، وقدرته علي الحركة، والوجود، والتحدي، وهو ما يجعلنا نتشكك بقوة في جدوي الطلعات الجوية التي تبدو حالة أقرب للاستعراض منها للعمل الجاد الذي يمكنه القضاء علي قوة التنظيم العسكرية، وليس مجرد تعقب مصادر قوته التمويليه.
ي- لا تزال الولايات المتحدة غير موثوق في سياستها لدي الجمهور العربي. ورغم أن غالبية العرب يرون أهمية ضربات التحالف لمواجهة التنظيم، فإن عددا لا يقل عن الربع يشكك في فاعلية هذه الضربات. كما أن أغلبية الشعوب العربية تري أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المستفيدة من هذه الضربات. ومن ثم، فإن عدم تصويب السياسات الأمريكية تجاه المنطقة يجعل ما تقدم عليه موضعا للشك، وعدم التصديق.
ثانيا- الحروب الأمريكية وصعود التطرف:
ولا شك في أن الولايات المتحدة هي المسئولة عن نشأة جهاديي الجيل الأول من تنظيم القاعدة، والذين كانوا يعرفون بالمجاهدين العرب، حيث عملت علي تهيئة التربة لإنباتهم. هكذا، قالت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، بوضوح “نحن من خلقنا تنظيم القاعدة، فالتنظيم علي الأقل في مرحلة التأسيس كان جزءا من تصور أميركي هدفه الانفراد بقيادة العالم، وتأكيد نهاية التاريخ، كما أشار فوكوياما”. وفي مقابلة مع المجلة الفرنسية “نوفيل أوبزرفاتور”، قال مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر، بريجنسكي، كنا نريد أن نعطي الاتحاد السوفيتي حرب فيتنام خاصة به، وبالفعل كان علي موسكو الدخول في حرب استمرت عشر سنوات، أفقدت الامبراطورية هيبتها ومكانتها، وأدت إلي تفككها. وحين سألته المطبوعة الفرنسية عن التبعات التي ستلحق بأوروبا، وأمريكا، والعالم بسبب دعم الأصولية الإسلامية، أجاب: ما هو أكثر أهمية للتاريخ: طالبان أم انهيار الاتحاد السوفيتي، بعض المسلمين الهائجين أم تحرير أوروبا ونهاية الحرب الباردة؟.
وقد أعطت الولايات المتحدة وحلفاؤها للحرب في أفغانستان معني مقدسا، وألهمت جيلا كاملا من الإسلاميين بفكرة الجهاد، وفتحت المعسكرات الباب واسعا لعسكرة سلوك هذا الجيل، وانفتاحه علي العنف. وكانت أفغانستان ومعسكراتها أحد مصادر الجذب للجيل الثاني من القاعدة، والذي منحته الحرب في العراق عام 2003 مجالا واسعا لمزيد من التطرف المخرب للعمران وللتوازن الاجتماعي. وقد جاءت تلك التنظيمات المتطرفة ذات الطابع الخوارجي بالتأكيد لتجعل حروب العالم الإسلامي داخله، وليست في مواجهة أعدائه، ومهدت الأرض لحرب طائفية، عَّدت فيها الشيعة هم عدوها الرئيسي. ذلك الجيل هو جيل أبي مصعب الزرقاوي، الذي بايع القاعدة، ثم خرج تنظيم الدولة الإسلامية في العراق عام 2006 بقيادة أبي عمر البغدادي من رحم تنظيم التوحيد والجهاد الذي أسسه أبي مصعب الزرقاوي عام 2003، فور مقدمه لبغداد بعد احتلالها.
ومع تفجر الثورة السورية، والقمع الحاد الذي وُوجهت به من خلال النظام، وتحولها إلي العسكرة، تنادي الجهاديون إلي الذهاب لسوريا لمقاومة العدو القريب وهو نظام الأسد ، وتشكلت جبهة النصرة أواخر عام .2011 وفي عام 2013، أعلن أبو بكر البغدادي الدولة الإسلامية في العراق والشام، والتي أصبحت تعرف بـ”داعش”، وأعلن من الموصل في يونيو عام 2014 نفسه خليفة، وأن الدولة أصبحت دولة الخلافة الإسلامية، ثم تلقي البيعات من أخوات “داعش”، وأعلن لاحقا أن دولة الخلافة بخير، وأنها تتمدد، وأن التحالف الصليبي سوف يبوء بالخسران، وذلك في شهر نوفمبر .2014 ذلك الجيل الجديد الثالث هو جيل أبي بكر البغدادي، وكأننا أمام تناسل لأجيال جهادية منذ حرب أفغانستان، يسلم بعضها بعضا راية العنف، والعسكرة، والتوحش مع كل حرب تشنها الولايات المتحدة وحلفاؤها علي المنطقة، أي أن الحروب الامريكية مهيئة للتطرف، والغلو، والعنف، والعسكرة، وليست قامعة لها، أو مانعة.
وكان مثيرا للانتباه أن يعلن الرئيس الأمريكي أوباما حربه علي “داعش” في سبتمبر 2014 في الذكري الثالثة عشرة لهجمات 11 سبتمبر 2001، والتي دشن فيها سلفه جورج بوش الابن ما أطلق عليه “الحرب علي الإرهاب”، تلك الحرب التي تعد الحرب الأطول في التاريخ الأمريكي. بيد أن العنصر اللافت في الحرب الجديدة هو ظهور جيل جديد من الإرهابيين حاملي الجوازات الغربية، والذين يأتون من أوروبا وأميركا، ويقدرعددهم بثلاثة آلاف، وتعدّهم أجهزة الاستخبارات الغربية خطرا علي الأمن القومي للدول القادمين منها. وفي دراسة لمعهد واشنطن بعنوان “الجهاديون الأجانب في سوريا.. تعقب شبكات التجنيد”، تتبع الباحث إشعارات الوفاة للمقاتلين الأجانب علي صفحات الإعلام الاجتماعي، واتضح أن أغلب إشعارات الوفاة لأكثر من ألف ومئة مقاتل كانت في النصف الأخير من عام 2013.
وتشير التقديرات إلي تدفق المزيد من المقاتلين الأجانب في سوريا كلما امتد أمد الصراع هناك، حيث لن يكون صراعا قصير الأمد، وإنما صراع طويل وممتد ربما لعشرات السنين القادمة لتعقد مكوناته الطائفية، والعرقية، ولتعقد طبيعة مواقف القوي الإقليمية والدولية المنخرطة فيه.
وقد رصدت دراسة معهد واشنطن البلدان التي ينتمي اليها الأوروبيون الذين قتلوا في سوريا: وهي فرنسا، واستراليا، وأيرلندا، وألبانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والبوسنة، وبريطانيا، وكندا، والدانمارك، وكوسوفو، ومقدونيا، ونيوزيلندا، وأسبانيا، وبلغاريا، وإيطاليا، ولوكسمبورج، والنرويج، ورومانيا، والسويد، وبالطبع، هناك بلدان أخري أوروبية لم تعلن عن قتلاها هناك. وحسب معلومات أوردها المركز الدولي لدراسة الظواهر الراديكالية، فإن فرنسا لها 412 مقاتلا في سوريا، وبريطانيا لها 366 مقاتلا، وبلجيكا لها 296 مقاتلا، وألمانيا لها 240 مقاتلا، بينما هولندا لديها 152 مقاتلا، بينما تتحدث التقديرات عن أكثر من 100 مقاتل أمريكي.
وتشير المعلومات أيضا إلي أن الفئات العمرية التي تتجه من أوروبا للقتال في سوريا تتراوح أعمارها بين فئتين، إحداهما من الرابعة عشرة إلي الثامنة عشرة، والثانية والأخيرة من الثامنة عشرة إلي الخامسة والعشرين. كما توضح المعلومات، قياسا علي تجربة العائدين السابقين من أفغانستان أو البلقان، أن واحدا من كل تسعة(9/1) من هؤلاء المقاتلين العائدين يكون لديه الاستعداد التام للقيام بأعمال تفجيرية. ومن ثم، فالعائدون من سوريا هم قنبلة موقوتة محتملة التفجر في وجه الحضارة الأوروبية، والغربية، والأمريكية، وتلك مسألة وقت لا أكثر من منظور المسئولين الأوروبيين. وأصبح التساؤل المطروح بقوة في الدوائر الأوروبية والغربية هو: متي يضرب جهاديو سوريا في أوروبا؟.
وليس هناك أدني شك في أن الغلو والتطرف اليوم لم يعد مقصورا علي العالم الإسلامي، وإنما امتد إلي العالم الغربي ليصبح عنفا معولما، ومباشرا، وظاهرا، وليس كما كان تنظيم القاعدة من قبل عنفا معولما، ولكنه عنف شبحي لا نراه. حيث يتمثل عنف “داعش” اليوم فيما يطلقون عليه “إدارة التوحش”، كما أنه عنف مسيطر علي الأرض، ويعلن عن نفسه في دولة الخلافة، إنه النسخة الأخيرة من العنف المتوحش، ولا أظن أن العالم يمكنه أن يحتمل نسخة متطورة منه.
ثالثا- شروط فاعلية التحالف:
هناك العديد من الشروط الضرورية لكي يكون التحالف فعالا، منها:
1- ألا تكون الحرب علي الإرهاب انتقائية، بمعني أن كل الجماعات الإرهابية يجب أن تكون مقصودة بالمواجهة، فلا يُستثني من ذلك جماعات الإرهاب الشيعية في العراق وسوريا.
2- أن تتخلي الولايات المتحدة عن نظرية أن الإرهاب هو حالة سُنية المذهب، وأن مشكلة التطرف هي مشكلة سُنية المذهب أيضا. ذلك أن التطرف السني ليس له علاقة بالمذهب، وإنما بالسياق المعاصر الذي قمع فيه المسلمون السُنة لمصلحة الشيعة، بعد مقدم الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي حوَّل الدولة العراقية لدولة أقليات في مواجهة الأغلبيات.
3- دعم قوي الاعتدال علي الجانبين السُني والشيعي، وبناء تيار وسطي داخل المذهبين يحررهما من سطوة التنظيمات الإرهابية، بما يحرمها من حواضنها الاجتماعية، وأهليتها وشرعيتها بين أبناء مذهبها.
4- يجادل ماكس بوت في مقاله بالواشنطن بوست حول تغيير الولايات المتحدة لاستراتيجيتها، والطريقة التي يمكنها بها تحقيق هذا التغيير، فيقترح تكثيف الضربات الجوية، ورفع الحظر عن إرسال قوات برية، وزيادة حجم القوات الأمريكية، وحشد القبائل السُنية، وفرض منطقة حظر جوي، وإرساء أسس لتسوية ما بعد الصراع. وهو يري أن هذه هي استراتيجية الحد الأدني الممكنة التي تحرم الدولة الإسلامية من تعزيز مكانتها، والانتشار في الإقليم، وهو ما سيفتح الباب واسعا لحرب كبري وحتمية.
5- الحرب تولد بيئة خصبة للتطرف والعنف، ومن ثم فهي ليست حلا. وكما يجادل دانيال بي بولجر في النيويورك تايمز، فإن حربين في أفغانستان والعراق صنعتا أسطورتنا، والحديث اليوم عن زيادة القوات هو مثل حفنة إسبرين يبتلعها مريض بالحمي ، لكن الشفاء من المرض الكامن لم يتم.
6- فلتدع الولايات المتحدة عالمنا العربي والإسلامي يتطور وينمو تلقائيا بعيدا عن أحلامها الأسطورية، ولعبة الشطرنج الكبري لها، في بحثها عن القوة والهيمنة ، وعليها أن تدرك أن العالم كله دار واحدة بتعبير أبي حنيفة، بمعني أنه عالم واحد، لا يمكن أن تشعل حربا في مكان منه، وتظل أنت بمنأي عن النار. فالعائدون من سوريا سيرتدون إلي عواصم المال والأعمال، والمراكز الإمبريالية المسيطرة والمتحكمة في النظام العالمي.
7- أنه لا حل أمام عالمنا العربي، بما في ذلك قوي المحافظة والاستقرار فيه، سوي الانحناء لمطالب التغيير، وتوسيع المشاركة لقطاعات المهمشين في الثروة، والسلطة، والقبول بالديموقراطية، فهذا هو الحل.
يواجه العالم العربي مأزقا هائلا منذ انطلاق الربيع العربي، ومن ثم، فتفكيرنا كعرب يجب أن يتجه لاستقبال عناصر التغيير والقبول بها. كما أن دولة ما بعد سايكس – بيكو لن تستمر، ولا بد من دولة عربية جديدة ديمقراطية تحترم كرامة الإنسان، وتسع جميع مواطنيها، بما في ذلك تيار الإسلام السياسي ،ومحاولة البحث عن صيغة جديدة لعلاقة هذا التيار بدولته الجديدة، بعيدا عن التنظيمات السرية، وترك الباب مواربا للعنف. وبعيدا عن الحركات الاجتماعية التي لها أذرع سياسية، فلا بد من اجتهاد جديد في السياسة والثقافة، يأخذ العالم العربي نحو حداثة لا تعادي الدين، وتدين لا يخاصم العصر والإنسان.
*باحث متخصص/ السياسة الدولية