مما لا شك فيه أن المغرب أصبح الآن مقتنعا بحتمية تحقيق إصلاح جهوي فعلي يستجيب لتطلعات المجتمع المدني بمختلف مكوناته الثقافية واللغوية. فالجهة ستشكل مستقبلا إطار لإنعاش وتنمية وسائل وآليات جديدة بل وإتاحة استعمال أفضل الموارد البشرية والطبيعية. إن الحكم الذاتي تحت السيادة الكاملة والوحدة الترابية للمغرب وفي إطار جهوي موسع، جعل مسألة الجهوية مطلبا وطنيا استعجاليا، بهدف إعطاء الجهات هامشا أوسع في التسيير الذاتي والتخلص من المركزية الضيقة.
وهذا يقودنا إلى التساؤل عن إمكانية استيعاب مشكلة الصحراء في سياق تطوير الديموقراطية المحلية التي ترعى حقوق السكان المحليين؟ لاشك في أن الجهوية هي أساس تدعيم التنمية المحلية. ومن المؤكد أن الجهوية المعمول بها حاليا وهي جهوية وإدارية لا يمكن أن تشكل حلا لقضية الصحراء بل لا بد من تطوير الجهوية الإدارية إلى جهوية سياسية قادرة على الحفاظ على الوحدة الترابية للدولة.
إن سياسة اللامركزية والجهوية، أصبحت إحدى أهم الأسس التي تتميز بها الأنظمة المعاصرة بل إنها أضحت مكونا رئيسيا لهذه الأنظمة، إلا أن درجة الأخذ بهذا النظام تختلف من دولة لأخرى، تبعا لخصوصيات كل بلد لأن الظواهر السياسية تمتاز بالخصوصية. لقد صارت الجهوية السياسية وسيلة للحفاظ على وحدة الدولة العصرية من خلال اعترافها بذاتية المجتمعات المحلية التي قد تكون أقليات سياسية اجتماعية أو عرقية في إطار من التضامن والانسجام الوطنيين، لهذا نجد أن الدول التي عانت من المركزية الشديدة في التسيير والحكم هي التي تبنت أرقى أشكال الجهوية العصرية كإسبانيا وإيطاليا وألمانيا. تعتبر الجهوية السياسية régionalisme politique أقصى درجة اللامركزية في إطار الدولة الموحدة دون الوصول إلى مستوى الدولة الفيدرالية، حيث تتوفر فيها الجهة على سيادتها وبالتالي فهي وسيلة لتحديث الدولة دون تجزئة سيادة الدولة. إن الجهوية على هذا الشكل تسعى إلى هدفين رئيسيين هما: تعميق التعددية السياسية والثقافية من جهة، والحرص على الاندماج الاجتماعي والتضامن المجتمعي.
والجهوية السياسية أساسها دستوري، وهي تعد أرقى أنواع الجهوية الحديثة في الدول المتقدمة، فهي تمثل سلطة سياسية حقيقية متميزة عن سلطة الدولة، فهي جماعة ديموقراطية مسيرة من طرف أجهزة سياسية منتخبة بطريقة مباشرة، والجهة هي أعلى مرتبة في مستويات اللامركزية الترابية إذ لا تتوفر فقط على اختصاصات إدارية وإنما أيضا لها اختصاصات تشريعية وتنظيمية أصلية محددة دستوريا.
كما تتوفر الجهة في إطار الجهوية السياسية على سلطة تحديد نظامها القانوني وطرق عملها وأجهزتها، وهي تتقاسم مع السلطة المركزية الوظائف السياسية خاصة في الميدان التشريعي والتنظيمي. إن نظام اللامركزية الإدارية القائم على وحدات إدارية محلية مستقلة تنتظم في شكل قرى أو بلديات أو محافظات لم يعد يتناسب مع تطور الحياة العصرية ومع تغير مفهوم وظيفة الدولة، الأمر الذي أوجب على الدولة أن تعيد النظر في التقسيم الإداري الذي تنتهجه بحيث تخلق أقساما جديدة تستجيب لدورها الجديد في التخطيط والإنماء، فكانت المناطق والجهات والأقاليم التي اعتبرت وسيلة لا أكثر أو إطارا حديثا لعمل الدولة الإنمائي، وهذا ما كان في فرنسا حيث أنشئ فيها 22 منطقة جديدة كإطار لعمل الدولة الإنمائي.
إذا كانت المسألة الجهوية تثير تخوفا لدى البعض فإن هذا التخوف من كون إقرار جهوية متطورة من شأنه أن يؤثر على وحدة البلاد، تخوف غير مبرر، إذ أن العكس هو الذي يمكن أن ينطبق على هذه الحالة، حيث أن مركزة القرار فرض وصاية شديدة على الجهات يجعل هذه الأخيرة تتطلع إلى تحقيق أكبر قدر من الاستقلال، يكون مواجها بالرفض، وهنا يكمن الخطر من أن يكبر الشعور بالنفور بين الجهات والإدارة المركزية, لذا فإن القول بأن سياسة الجهوية تشكل خطرا على وحدة البلد قول غير صحيح، فالتجربة في دول أخرى غير رائدة في مجال الجهوية واللامركزية أثبتت أن الجهوية دعمت وحدة هذه الدول رغم اختلاف ظروف كل منها. وخير مثال قريب منا ما يدل على أن نهج سياسة الجهوية يدعم ويحافظ على وحدة تماسك الدولة، التجربة الإسبانية، حيث إنه بفضل تبني سياسة الجهوية يدعم استطاعت إسبانيا أن تحتوي النزاعات الانفصالية وبالتالي المحافظة على وحدة الدولة. كما أن إيطاليا كانت تعرف اختلافا واضحا بين الشمال والجنوب يهدد وحدة الدولة وانفصال الجنوب عنها،وساهم إقرار الجهوية على احتواء كل تلك التناقضات وأصبحت إيطاليا بفضل السياسة الجهوية دولة موحدة قوية، واستطاعت أن تضع حدا لتلك الاختلافات، كما أن اللاندر الألماني ساهم إلى حد كبير في دعم وحدة ألمانيا وتطورها.
إن الوعي بإدارة شؤون الدولة مركزيا أصبح مستحيلا، إذ أن الحاجات المتولدة يوما بعد يوم بالإضافة إلى المتطلبات الحالية، تدعو إلى تبني سياسة جهوية تستطيع أن تكون عاملا للتنمية المستديمة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهذا لن يتأتى إذا استمر التعثر في مسلسل اللامركزية بالشكل الحالي، وفي هذا الإطار جيب أن تكون الإدارة المركزية بالنسبة للجهات بمثابة الأم الحاضنة وأن ترعى احتياجاتها المادية، والحفاظ على علاقة روحية تجمعها بها، إذ تستطيع دعم الجهات الفقيرة عن طريق تحويل فائض الجهات الغنية إليها ورعايتها مثلما تقوم الأم برعاية أطفالها، وبذلك تستطيع الدولة بفضل سياسة جهوية ناجحة القضاء على الاختلالات فيما بين الجهات وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد لمح إلى قيام تنظيم جهوي بتسيير الشؤون المحلية بواسطة منتخبين محليين في إشارة لحل قضية الصحراء على غرار خيارات تنهجها دول أوربية مثل “إسبانيا و إيطاليا وألمانيا. إن الجهوية هي أساس تدعيم التنمية المحلية من خلال المشاريع التنموية الاجتماعية والاقتصادية كما تمكن المواطنين من تنظيم وتدبير شؤونهم المحلية والجهوية في إطار استقلال ذاتي إداري وتدبيري. كما تبدو عملية تدبير الانتقال الديموقراطية وترسيخه في كل أنحاء المغرب، بما فيها الأقاليم الصحراوية في إطار العبء الثقيل للممارسات السياسية التي كانت سائدة في العلاقة بين أجهزة الدولة والمجتمع الصحراوي، والتي كانت تتحكم فيها أولوية الحفاظ على الوحدة بكل الوسائل، بما فيها استعمال العنف وإذا كانت بقية المناطق المغربية التي تعرضت هي الأخرى لعنف الدولة والتي تعرف التحول الديموقراطي التدريجي لا تطرح الاختيار الانفصالي، فإن هذا الاختيار مطروح في صفوف شرائح متعددة ضمن المجتمع الصحراوي، ولذلك فإن تدبير التحول الديموقراطية في المناطق الصحراوية يتطلب التفكير في الأسباب العميقة التي تدفع باستمرار الأطروحة الانفصالية ومدى يتلاءم جوهرها مع التحولات التي ما فتئ المغرب يعيشها، ومع التحولات التي تفرضا العولمة حاليا. إن الجهوية لا ينبغي أن تبقى مجرد نصوص بل لابد من تفعيلها على أرض الواقع من خلال تمكين الصحراويين، وكذلك باقي سكان المغرب من أجهزة تمثيلية ذات اختصاصات فعلية وإمكانات مالية تسمح لها بالتدبير المحلي الفعلي انطلاقا من الخصوصيات التي تتمتع بها وكذلك إدماج كافة مكوناتها بعيدا عن الهاجس الأمني المحض الذي تحكم في تدبيرها طيلة السنوات الماضية.
إن المدخل الدستوري لحل قضية الصحراء يصطدم على مستوى القانون الدستوري المقارن بوجود نماذج ثلاث للجهوية الدستورية لا يندرج المثال الصحراوي في الوصفات التي قدمتها والتي حاولت الإجابة إما على:
جهوية ترسم حدود وطنية مقبولة وأمة قائمة على أساس التعددية.
كآلية جسدت توافق الأطراف على إفلاس نمط تدبير ترابي ممركز تحولت بمقتضاه الجهوية إلى إطار مؤسساتي وقاعدة من قواعد اللعب.
حل وسط بين مطالب المركز والنزعات الاستقلالية للجماعات الترابية.
إن حل الجهوية الدستورية لا يحيل فقط على أوصاف قانونية مقارنة بإمكانها إعادة تشكيل المجال الترابي للدولة ولا إلى عبقرية دستورية قادرة على إدماج مطالب المحيط مع الحفاظ على مصالح المركز والاتفاق على المبدأ قبل الخوض في طبيعة قواعده ومؤسساته، مما سيجعل نتائج الاستفتاء حول هذا التعديل وطنيا غير ذي معنى إذا لم تلقى قبولا من قبل الأطراف الأخرى بالصراع. إن الانتقال إلى دولة الجهات يعني إقامة مجموعة من الجهات تتمتع باستقلالية عن المركز في بعض المجالات المحددة أو تلك المفوضة لها من قبل السلطة المركزية. وفي هذه الحالة يستدعي الأمر إجراء تعديل دستوري للارتقاء بنظام الجهة في مستوى متقدم من اللامركزية في إطار الدولة الموحدة بمعنى الانتقال من الجهوية الإدارية المعمول بها في المغرب إلى الجهوية السياسية المحددة دستوريا.
ومن المؤكد أن خيار الجهوية السياسية وليس الجهوية الإدارية المعمول بها حاليا والتي تحكمت في هندستها اعتبارات أمنية من شأنها أن تعرف تغييرا فالجهوية الدستورية التي يعتمد عليها كآلية في مواجهة مطلب “حق الشعب في تقرير المصير” تشكل الإطار المؤسساتي الكفيل بإعادة رسم الحدود بين المؤسسات ومن هنا فالمنطقة الصحراوية ستعرف تمثيلية جديدة غير تلك التي كانت تهندس خارج صناديق الاقتراع اعتبارا للخصوصية الثقافية للمجتمع الصحراوي كمجتمع قبلي، وهي المقاربة العملية التي كانت سائدة بخصوص تدبير أمور هذه المنطقة الشيء الذي أنتج نخبة صحراوية عرفت بارتباطها الوطيد بالإدارة.
إن تطبيق الدولة الجهوية يستدعي إعادة النظر في وظيفة المؤسسات المحلية وأساس تشكيل المؤسسات الوطنية التي ستصبح ذات أساس ترابي جهوي إضافة إلى ضرورة رسم حدود للاختصاص بين المستويين وطبيعة تنازلات المركز والجانب الموكولة له مهام الدفاع والخارجية، إنه منطق ينظر إلى الصحراء باعتبارها وحدة ترابية منزوع عنها طابع الخصوصية قياسا إلى الوحدات الجهوية الأخرى، لكن الإشكال يكمن في الحجم الترابي لهذه الوحدات الجهوية, وبالتالي فإن خيار الجهوية ليس خيارا تقنيا ولا تعديلا بإمكانه أن يمس مستوى محدودا داخل البنية الدستورية، بل يستمد ليشمل رأس التنظيم السياسي، سؤال فصل السلط، أساس التمثيل السياسي وشكل الدولة وهي أبعاد لا يمكن لتعديل دستوري محدود أن يجيب عنها، إن القدوة الاحتوائية لسياسة التعديل الدستوري لسنوات 92-95-96 لا يمكن أن يعاد إنتاجها، فالأمر لا يتعلق هنا بالبحث عن التوافق مع أحزاب المعارضة ولا إلى امتصاص مطالب الحركات الاحتجاجية الحقوقية ولا إلى إيجاد صيغة للتعايش بين سلطتي الانتخاب والتعيين، إن الأمر يتعلق بفلسفة دستورية جديدة تتأسس على مبدأ التعددية وترسيخ ثقافة الاحتكام إلى الشكلانية القانونية، ومبدأ الحكامة الجيدة والديمقراطية المحلية. ويمكن القول أن السياسة الجهوية المتبعة تسير في اتجاه عدم السماح بانبثاق سلطة جهوية تكون وحدة متجانسة ومتكاملة، حيث أن الإرث المركزي يلعب دورا في هذا الاتجاه، ويمكن أن نوضح ذلك من خلال الأسماء التي أعطيت للجهات، فإذا انطلقنا من ظهير 16 يونيو 1971، نجد أن الأسماء التي أعطيت للجهات غير متطابقة مع خصوصيات هذه الجماعات الترابية. ومع التقسيم الجهوي الجديد لسنة 1997 يلاحظ عدم تجانس بين الخصوصيات التاريخية والثقافية والجغرافية، والاسم الذي أعطي لكل جهة، وهذا من شأنه ألا يساعد على ترسيخ هوية جهوية متميزة كما أن أي نظام جهوي جديد لا بد من أن ينبثق من الواقع المغربي، لأنه يستحيل تكييف نظام قانوني وإداري مع مجتمعه أو تشكيلة اقتصادية أو اجتماعية لا يمت إليها بصلة، إذ إن الأجهزة والمؤسسات الإدارية ذات الأصل الأجنبي بعيدة عن الواقع الاجتماعي بمقوماته وخصوصياته فكيف لها أن تقدر على الاندماج والتفاعل والتعامل معه.
إن الحديث عن نوع مغاير من الجهوية، جاء على لسان الملك الراحل في كتابه “ذاكرة ملك” حيث يقول:”إن المغرب بمثابة فسيفساء بشرية وجغرافية، ولهذا الغرض أريد تحقيق اللامركزية لأترك يوما الجهات تتمتع باستقلالية كبيرة على شاكلة المقاطعات الألمانية “لاندر” وذلك سيكون بالتأكيد في مصلحة المغرب، بحيث يكون التنفيذ أسرع والتطور أكثر واقعية، فالمغرب حباه الله بتنوع رائع لأنه يزخر من الناحية الجغرافية بصحراء شاسعة وواحات نخيل وارفة الظلال، وثلوج تكسو جباله وسهول خصبة، فضلا عن سواحل مترامية الأطراف على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، ولا ينقصه إلا صقيع القطب الجنوبي”.
وعندما سئل الملك الراحل عن ما يمكن أن تسببه هذه اللامركزية في تشجيع تصاعد موجة التوتر وبروز نوع من الانفصال، أجاب: “إن الأمر لا يتعلق بمركزية مطلقة دون أن يكون هناك حد أدنى من الارتباط بالسلطة المركزية، وأثير هنا إحدى الخصوصيات، هي أننا يمكن أن نسير في اللامركزية إلى أبعد الحدود ما دمنا متمسكين برابطة البيعة، فكلما تم احترام هذا الميثاق من طرف الأجيال المقبلة كان بإمكان السلطة المركزية ترشيد الجهات المغربية أكثر فأكثر، لأن المواطن المغربي سيبقى على مر الأحقاب ذلك الإنسان المؤمن الذي يؤدي فريضة الصلاة ويصوم رمضان ويحج إلى بيت الله الحرام، وطالما هذا البلد بلد مسلم، فلن يكون هناك أي خطر، وعندما يصبح بلدا علمانيا، وهذا لن يحدث على الإطلاق، عند ذلك فقط يمكن أن تؤدي اللامركزية إلى التصدع”. إن الجهوية، كسياسة تدبيرية للترشيد والتنمية، وكنمط من التفكير والتخطيط الداعم للديموقراطية واللامركزية لابد -لكي تكون منتجة وناجحة- أن تتوفر لها مجموعة من الشروط البشرية والتنظيمية والتربية الضرورية، والمناخ السياسي والثقافي والاجتماعي المناسب أي مجمل المعلومات الكفيلة بنقلها من الخطاب إلى الفعل، وتحويلها من مبادئ وقيم وأهداف وترتيبات إدارية واقتصادية ومسطرية، إلى ممارسة أي إلى سلوك ديموقراطي وعملي متنفذ” .هذا وإذا كان المغرب قد دشن أول تجربة متواضعة منذ سنة 1971 عند صدور الظهير المتعلق بالتقسيم الجهوي الذي حدد بعض الهياكل الاستشارية الجهوية، بحيث منذ السبعينات بدأ المشرع المغربي يعطي اهتماما بالغا لموضوع الجهوية خاصة من خلال المخططات الوطنية، غير أن هذه التجربة لم تحقق نتائج مهمة في مجال الأهداف التي كانت مرسومة لها، خاصة في مجال التخفيف من الفوارق الجهوية ولا مركزية الاستثمارية العمومية والخاصة الشيء الذي جعل الملك الراحل في خطابه السامي بتاريخ 24 أكتوبر 1984 يحدد الخطوط العريضة للإصلاح الجهوي تكون فيه الجهة تتوفر على سلطات تشريعية وتنفيذية.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن التجربة المغربية في مجال الجهوية يصعب وصفها بأنها سياسة جهوية بالمعنى الصحيح للكلمة. نظرا لأنها كانت مجرد عمل جهوي للسلطات العمومية أو إطار لتصنيف تدخلات السلطات العمومية، على الصعيد الترابي، بحيث كانت هذه العملية يسيطر عليها المركز تخطيطا وتنفيذا كما كان البعد الإقليمي يسيطر على عقلية المخطط أكثر من البعد الجهوي. وبتحليل الخريطة الجغرافية للتقسيم الجهوي، يتبين أن الجهات الحالية تشابه إلى حد كبير الجهات التي أنشأها الاستعمار, فالتغييرات التي أدخلها المشرع تمثلت في ضم المنطقة الإسبانية، تطوان، شفشاون وطنجة إلى جهة الشمال الغربي، والحسيمة إلى جهة الوسط الشمالي، والناظور إلى جهة الشرق، أما جهة الجنوب فقد تم توسيعها لتضم إيفني وبعد ذلك الأقاليم الصحراوية.
إن بعض الجهات والأقاليم لا زالت تعيش في عزلة في ظل التجارب الجهوية في المغرب، وذلك بفعل خضوع هذه التجارب للعديد من المراهنات والصراعات وتنازع المصالح التي لا تزال في مجتمعنا لم تنقطع نهائيا. إن التقسيم الجهوي الجديد يبرز لنا، وخاصة عند تحديده لمكونات، وحدود، ومراكز بعض الجهات كيف أن العديد من المدن والقرى والمناطق لم تستفد مما كان يفترض أن تستفيد منه في مجال الخدمات الصحية والتربوية والاقتصادية وغيرها، وذلك نظرا لما تتوفر عليه من شروط وإمكانات ومؤهلات…غير أننا وانطلاقا من منظور سياسي ونضالي متفائل وحذر ومن رؤية ثقافية مجافية للعدمية والانعزال الفكري والاجتماعي، نعتقد أن التقسيم الجهوي الجديد، رغم سلبياته وثغراته المسطرية والتنظيمية المتعلقة خاصة بالمراقبة وأساليب اتخاذ القرار على مستوى الجهة يمكن أن يكون منطلقا إيجابيا للإصلاح والتجديد متى توفرت له الشروط المواتية المؤسسة على وعي اجتماعي جديد، يطمح إلى تدعيم ممارسة اجتماعية وسياسية جديدة بالفعل، ومكرسة للمصلحة الوطنية العليا، لا للمصالح الفئوية أو القبلية الضيقة، مما ينتظر منه أن يحدث تحويلا نوعيا في المجتمع.
إن القراءة الأولية للتجربة الجهوية بموجب ظهير 2 أبريل 1997، تبرز مجموعة من الظواهر التي تتلخص في أن معالم التجربة الجهوية الجديد ما زالت لم تتضح بعد والسبب في ذلك يعود إلى مجموعة من الإكراهات والعوائق يمكن تلخيصها كما يلي:
1-غياب النصوص القانونية المنظمة لتدخل الجهة في مجال الشأن العالم المحلي: ترتب عن عدم إصدار النصوص التنظيمية والتطبيقية وإخراجها إلى حيز الوجود، أن أدى إلى إفراغ العمل الجهوي المنظم بموجب قانون 2 أبريل 1997 من محتواه الإيجابي إذ أن غياب الإطار القانوني المنظم لهيكلة المصالح الإدارية للجهات وكذلك غياب النص القانوني المنظم للموارد البشرية والتمييز بين كل من الإدارة الجهوية التابعة للمجلس الجهوي عن الإدارة التابعة لوالي الجهة. إن التشريع الجهوي المنظم بموجب قانون 1997 ما زال متعثرا منذ إدخاله حيز التنفيذ، وهذا ما أكده البعض حيث أكد على قصور الأداء الحكومي في هذا الميدان ارتكازه على مقاربات وتوجهات لا تعرف إلى أين تتجه الجهوية اليوم ومستقبلا وذلك في زمن أصبحت فيه جميع دول العالم تحدد توجهاتها المستقبلية والاستراتيجية على أساس جهوي، لذا لا يجب أن تستعمل الجهوية كأداة مبنية لتصور إيديولوجي وسياسي بدل الاقتصادي والتنموي.
2-عدم تفعيل اختصاصات المجلس الجهوي: إن عدم تفعيل اختصاصات المجلس الجهوي بعدم إخراجها إلى الوجود من الناحية العملية، قد أدى في نهاية المطاف إلى الاقتصار على عقد اجتماعات وصياغة التوصيات دون أن تعرف طريقها إلى التنفيذ، والسبب في ذلك يرجع إلى الأسباب التالية:
أ- غياب الوسائل البشرية الضرورية لتفعيل هذه الاختصاصات، فبالرغم من أن الفصل 51 من قانون 2 أبريل 1997 نص على إحداث منصب الكاتب العام و المكلفين بالدراسات الجهوية والمكلفين بمهمة، فإن عدم إصدار النصوص لهذه الفئة من الأطر الجهوية، قد أدى إلى إضفاء الصبغة الشكلية على اختصاصات المجالس الجهوية.
ب- عدم فعالية النظام القانوني للتمويل الجهوي: إذا كانت الجهة عبارة عن جماعة محلية طبقا لمنطوق الفصل 100 من الدستور تتوفر على استقلال إداري ومالي طبقا للفصل الأول من قانون 2 أبريل 1997، فإن عدم توفر رئيس المجلس الجهوي على صفة الآمر بالصرف والمخولة إلى والي الجهة طبقا لنفس القانون قد جعل المجالس الجهوية تبرمج الأموال طبقا لحاجيات الجهة ضمن الميزانية الجهوية. لكن طرق صرف هذه الأموال يصطدم بالعراقيل وطول الإجراءات المالية والإدارية التي يمارسها الولاة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى صعوبات في تنفيذ الميزانيات الجهوية، مما يطرح معه التساؤل حول مآل وظيفة الآمر بالصرف للميزانية الجهوية التي تعد في الوقت الحالي إجراءا من شأنه الحد من طموحات المنتخبين الجهويين في مجال تدبير الشأن العام الجهوي.
3- غياب برامج جهوية في ميدان تطوير الشأن العام المحلي: يعد التخطيط الجهوي العمود الفقري في ميدان وضع إستراتيجية تنموية تتولى تطوير الشأن العام الجهوي، لكن الملاحظ في التجربة الجهوية الحالية، هو غياب برامج جهوية من شأنها أن ترقى بالشأن العام الجهوي إلى المستوى المطلوب، إذ أنه لا يمكن وضع أية برامج تنموية والجهات لا تتوفر على الوسائل التقنية اللازمة للتخطيط المجالي والمتجلية في تصاميم التهيئة والتنموية الجهوية الكفيلة بإعطاء البعد التنموي للجهوية وذلك على أسس جديدة اقتصادية واجتماعية وقانونية من شأنها التحكم في القضايا والمشاكل والفوارق المترتبة عن التقسيمات الجهوية والترابية القديمة.
4غياب التأطير الإداري للمصالح الوزارية على صعيد الجهات: إن الحديث عن الدور المنوط بالجهات في ميدان تدبير الشان العام المحلي الجهوي يرتبط أساسا بتنظيم المصالح الوزارية وهيكلتها على الصعيد الجهوي، وذلك بإحداث المندوبيات والمديريات الجهوية للمصالح الوزارية، تتولى التعامل المباشر مع المجالس الجهوية، لكن هذا التنظيم قد زاد من تعقيد هذه الوضعية وبالتالي أدى إلى غياب المخاطب الإداري الجهوي الوحيد لهذه المجالس الجهوية. بعد استعراض أهم عوائق ومشكلات التجربة الجهوية في المغرب، لا بأس من التطرق إلى بعض الشروط أو البدائل التي لا بد من توفرها لتجاوز ما أصبح ينعت ب “الأزمة” الراهنة لهذه التجربة ولإنضاج تصور عقلاني للجهة والجهوية كآلية حديثة لتدبير الاختلاف والتعدد داخل الوحدة الوطنية الشمولية المتكاملة المكونات ونفضل لاعتبارات محض منهجية أن نجمل ذلك في النقاط الآتية:
ضرورة توفير الشروط المناسبة لإقامة تكوين المجالس الجماعية على أسس ديموقراطية سليمة تجعلها منتخبة بشكل عقلاني بمنحها تمثيلية للمجتمع ذات مصداقية مقبولة سياسيا واجتماعيا الأمر الذي يجعلها ممثلة لحاجات وتطلعات ومصالح والمواطن المغربي، سواء على مستوى الجهة أم على المستوى الوطني العام.
أهمية التنويه بضرورة التعامل مع الجهوية كاختيار مبدئي استراتيجي، وليس كمجرد شعار سياسي ذلك أنه من بين أخطر الآفاق التي ابتلينا بها في مجتمعاتنا الثالثية أننا كثيرا ما نتعامل مع المفاهيم والسياسات العربية التي نستوردها تعاملا شعاريا مبدئيا، وهكذا نفرغها من مضامينها الإيجابية العلمية لنزج بها في دوامة الرهانات الإيديولوجية والظرفية الضيقة المحكومة بالهواجس الأمنية والسياسوية لا بالأفق الفكري والسياسي الوسع.
إعادة النظر في التقسيم الجهوي الذي لم يتوفق في تحقيق التوازن بين الجهات والانسجام الداخلي لكل جهة حيث نلمس مجموعة من العيوب منها:
العدد الكبير للجهات (16 جهة) مما يؤثر على حجمها وأهميتها الاقتصادية.
تكوين الجهات على أسس إقليمية التي تراعي الاعتبارات الإدارية والسياسية اكثر من الاعتبارات التنموية والاقتصادية.
إعادة النظر في تمثيلية الغرفة الثانية من البرلمان المغربي التي لا يكاد إثنان في المغرب يختلفان على أن دور الغرفة الثانية لا يختلف كثيرا عن مثيلتها الأولى، ولهذا السبب يجب أن يتحول دورها لتمثيل الجهات، وهذا التمثيل السياسي للجهات في هرم الدولة أي في القمة سوف يدعم وجودها السياسي ويجعل الجهات بالتالي تساهم في اتخاذ القرار السياسي على المستوى الوطني.
إصلاح جهوي يرتكز على ثلاث مبادئ أساسية: تحديد الجهات وحدودها على أساس شروط كفيلة بخلق نمو مستديم (منفذ بحري-سمة فكرية- مطارات) وإسناد سلطات واسعة للجهات في إطار إصلاح للدولة يعيد النظر في تعامل المركز مع الجهات. وهذا لن يتم إلا عبر انتخاب مجالس الجهات بالاقتراع العام المباشر مع إنشاء أجهزة تنفيذية.
توزيع الصلاحيات بشكل عمودي، أي التعهد بمنح الهيئات الدنيا وظائف تشريعية وتنفيذية ومالية مما لاشك فيه أن يسبق هذا الاستناد تمييزا للمهام الوطنية والجهوية حيث يعتبر في هذا الصدد تحويل الصلاحيات التي تهم ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كتنشيط الاقتصاد الجهوي الشغيل، التعليم، التكوين المهني، البحث العلمي، الصحة، النقل، السياحة والمحافظة على البيئة أمرا حكيما.
وقد جاء الخطاب الملكي السامي ل 3 يناير 2010 بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية حاملا لمشروع جهوية موسعة تندرج ضمن البناء الديمقراطي الحداثي للمغرب و النهوض بمسلسل التنمية الجهوية للبلاد في إطار الحكامة الجيدة والديمقراطية المخلية،يقول جلالة الملك في هذا الإطار: ومن هذا المنظور، فإن الجهوية الموسعة المنشودة، ليست مجرد إجراء تقني أو إداري، بل توجها حاسما لتطوير وتحديث هياكل الدولة، والنهوض بالتنمية المندمجة.
وإننا ننتظر من هذه اللجنة، إعداد تصور عام، لنموذج وطني لجهوية متقدمة، تشمل كل جهات المملكة; على أن ترفعه لسامي نظرنا في نهاية شهر يونيو القادم. وكما سبق أن أكدنا على ذلك، فإننا ندعو اللجنة إلى الاجتهاد في إيجاد نموذج مغربي – مغربي للجهوية، نابع من خصوصيات بلدنا. وفي صدارتها انفراد الملكية المغربية بكونها من أعرق الملكيات في العالم. فقد ظلت، على مر العصور، ضامنة لوحدة الأمة، ومجسدة للتلاحم بكافة فئات الشعب، والوقوف الميداني على أحواله، في كل المناطق.
كما أن المغرب يتميز برصيده التاريخي الأصيل، وتطوره العصري المشهود، في انتهاج اللامركزية الواسعة. لذا، يجدر باللجنة العمل على إبداع منظومة وطنية متميزة للجهوية; بعيدا عن اللجوء للتقليد الحرفي، أو الاستنساخ الشكلي للتجارب الأجنبية. غايتنا المثلى التأسيس لنموذج رائد في الجهوية بالنسبة للدول النامية، وترسيخ المكانة الخاصة لبلادنا، كمرجع يحتذى، في اتخاذ مواقف وطنية مقدامة، وإيجاد أجوبة مغربية خلاقة، للقضايا المغربية الكبرى. هذا وقد حدد صاحب الجلالة الملك محمد السادس مرتكزات الاصلاح الجهوي في أربعة محاور رئيسية:
أولا : التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها، في وحدة الدولة والوطن والتراب، التي نحن لها ضامنون، وعلى صيانتها مؤتمنون. فالجهوية الموسعة، يجب أن تكون تأكيدا ديمقراطيا للتميز المغربي، الغني بتنوع روافده الثقافية والمجالية، المنصهرة في هوية وطنية موحدة.
ثانيا : الالتزام بالتضامن. إذ لا ينبغي اختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات، بين المركز والجهات. فالتنمية الجهوية لن تكون متكافئة وذات طابع وطني، إلا إذا قامت على تلازم استثمار كل جهة لمؤهلاتها، على الوجه الأمثل، مع إيجاد آليات ناجعة للتضامن، المجسد للتكامل والتلاحم بين المناطق، في مغرب موحد.
ثالثا : اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات، وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها، بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات.
رابعا : انتهاج اللاتمركز الواسع، الذي لن تستقيم الجهوية بدون تفعيله، في نطاق حكامة ترابية ناجعة، قائمة على التناسق والتفاعل. هذا وإذا كان الحكم الذاتي المتطور في إطار اللامركزية الجهوية والوحدة الوطنية، اختيار ملكي مفاده أن المغرب مستعد للتفاوض في كل شيء ماعدا الطابع البريدي والعلم المغربي. بمعنى الطرح الملكي جاء مستوف لسياسة جهوية عصرية ليس لها حدود ما عدا تلك التي تمس بالسيادة التي يرمز إليها الطابع البريدي وعلم البلاد، وكل ذلك يهف حسب اعتقادنا إلى إقناع الطرفين بشيئين اثنين:
1- طرح فكرة الإدماج والتخلص من مخلفات الحرب الباردة، دون المساس بالسيادة الوطنية.
2- فتح مجال للعيش في استقرار، إذا كان الهدف من هذا الملف الشائك هو كذلك، وتحقيق ذلك في إطار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، سواء بالنسبة لمنطقة الصحراء أو باقي مناطق المغرب.
ويبدو ان اختيار جلالة الملك للأستاذ عمر عزيمان، ليس فقط لما عهد فيه، من كفاءة وحنكة وتجرد، والتزام بروح المسؤولية العالية، بل لخبرته كسفير للمغرب باسبانيا واطلاعه على التجربة الرائدة في مجال الجهوية بهذا البلد الجار.
وخلاصة القول إن الاعتماد على التاريخ لتعزيز الجغرافية، والخروج من نقطة الصفر، والنهوض بالمشروع المبني على قاعدة جهوية متينة تتيح الانصهار في كيان ديموقراطي تعددي موحد، في إطار اللامركزية الجهوية والوحدة الوطنية هو الحل الوحيد لبناء مغرب قادر على مواجهة ما ينتظره من تحديات هذا القرن.
(*) المقال جزء من رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام سنة 2005 تحت اشراف الدكتور الحسان بوقنطار (مع بعض التعديلات الجديدة) بعنوان: قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي- جامعة محمد الخامس- الرباط
* باحث في العلاقات الدولية- جامعة محمد الخامس-الرباط