هذا الكيان الجديد، الذي وسم بأنصار الله من قبل أصحابه، وبالحوثية من قبل الطرف المعادي له، أتى ليناهض النظام الحاكم؛ فقد استغل رأس النظام هذا الطارئ، ليزج بخصومه السياسيين والعسكريين في محاربته تحت غطاء الدولة؛ لأهداف وغايات كثيرة تصب في صالحه منها: إشغال الخصوم السياسيين المتدينين بحرب طائفية تلهيهم عن العمل السياسي، وإرضاء الولايات المتحدة بمحاربة من يجاهر بعدائها، والزج بمن تراهم إرهابيين في حروب بعيدة عنها، واستدرار أموال دول الخليج تحت ذريعة محاربة من يشكلون خطراً عليهم.
تاريخ أئمة الزيدية في اليمن موغل في امتداده الزمني نحو الماضي؛ فمنذ أن وطأت قدما يحيى بن الحسين الرسي، الذي ينتسب إلى آل البيت وإلى الرس بالمدينة المنورة، أرض اليمن للمرة الثانية بعد استدعاء بعض قبائل صعدة له؛ ليفض نزاعاتهم القبلية، بدأ تاريخهم الذي استمر من سنة284ه/898م وحتى قيام النظام الجمهوري سنة1382ه/1962م؛ أي إن حكمهم لليمن نيَّف على الألف عام.
وهذه المدة الطويلة، التي تخللتها فترات انقطاع لحكمهم، لا تعني أنهم بسطوا نفوذهم على كل أراضي اليمن، ولا أنهم أظلوها بعدلهم، ولا أنهم لم يجدوا رفضاً ومقاومة وممانعة، ولا أنهم استمروا في حكمها دون أن تكون هناك دواع لذلك الاستمرار؛ فمنذ إمامهم الأول الذي اتخذ لنفسه لقب: (الإمام الهادي إلى الحق) وحتى إمامهم الأخير (محمد البدر)، كان نفوذهم يمتد ليشمل معظم مناطق اليمن الشمالية ويتقلص إلى أن يزول أو ينزوي في قرية أو مدينة ما، تقع في شمال اليمن أو شمال شمالها. كما أن جور بعضهم وطمع آخرين منهم في الحكم جعل مبدأ الخروج بالسيف من قبل بعضهم على بعضهم الآخر يسيل دماءهم ودماء كثير من اليمنيين طوال تاريخهم؛ ولذا وجدنا التاريخ يسجل لنا مناهضات وثورات فكرية وحربية عديدة، من قبل يمانيين، ضدهم وضد فلسفة حكمهم التي تحصر أحقيته في كل من ينتمي إلى سلالة البطنين (الحسن والحسين)، ولكن هذه المناهضات والثورات شهدت تراجعاً نسبياً بعد دخول العثمانيين (الأتراك) إلى اليمن؛ لأن أئمة الزيدية سعوا إلى تعبئة الشعب اليمني ضدهم وضد دعوى الخلافة الإسلامية السنية التي أتوا بها. ولكنهم بمشروعية المقاومة ضد الاحتلال العثماني أوجدوا لليمنيين قضية يشغلونهم بها عن مناوأتهم لحكمهم واستطاعوا أن يتخذوا منهم حائطاً يصدون به الاستعمار العثماني ومشروع الخلافة الإسلامية اللذين أصبحا مهددين لمذهبهم الزيدي الذي حكموا به اليمن واليمنيين.
وما إن انقضى الصراع مع العثمانيين، الذين أرغمتهم الحرب العالمية الأولى على الخروج من اليمن في العام 1918م، حتى صفي لأئمة الزيدية حكم شمال اليمن، ولكن أصداء تحرر شعوب العالم طرقت أسماع الأحرار من أبناء اليمن بمختلف طبقاتهم وفئاتهم ومناطقهم؛ فثاروا، مع كثير من أبناء الأسر الزيدية الهاشمية، ثورات متوالية توجت بسقوط نظام الأئمة الزيدية في العام 1962م؛ غير أن نظامهم ظل يقاوم الجمهوريين سنوات لاحقة حتى كادوا أن يسقطوه بثورة مضادة في نهاية الستينيات، لولا أن الموالين للجمهورية استطاعوا كسر حصار صنعاء ومطاردة فلول المناهضين لها الذين اتخذوا من المعقل الأم للزيدية (صعدة) ملاذاً يأوون إليه ويحتمون به.
ونظراً لأمور مختلفة وعديدة كف الجمهوريون عن مطاردة أولئك، وبدأت العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية تخط لنفسها طريقاً يناسب المرحلة، ولكن سياسة الأنظمة الديكتاتورية في الجمهوريات العربية الناشئة والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، هي التي سوغت استمرار إهمال محافظة صعدة، وغيرها من محافظات الأطراف البعيدة عن المركز، من التطوير والتنوير.
وقد تفاقم إهمال هذه المناطق في عهد النظام السابق الذي أراد إزالة توجسه من مبدإ الخروج على الحاكم الظالم، الذي يعد أصلاً من أصول الزيدية المتكتلين في تلك المحافظة؛ فاستزرع لهم في عقر دارهم توجهاً دينياً سلفياً أو وهابياً هدد هوية الزيديين الدينية، بل إنه بزرع سلفية أو وهابية المحدِّث “مقبل الوادعي” ومركزه الديني في (دماج- صعدة) لم يأمن مكر علماء الزيدية هناك وحسب، ولكنه خَلَّصَ السعودية من رجل دين غير مرغوب في بقائه بها، وأفاد من فتاواه الدينية التي تلزم المسلمين بعدم جواز خروجهم على الحاكم ما لم يأت بكفر بواح.
هذه الحرب غير المعلنة بين السلفيين والزيديين في صعدة، هي التي دفعت الزيديين إلى استشعار الخطر المحدق بهم؛ فسعوا إلى تشكيل كيان سياسي وكيان آخر مذهبي يحيون بهما المذهب الزيدي، وينافحون به الوهابيين سياسياً ودينياً. ولكن حضور كيانهم السياسي المتمثل في(حزب الحق) وكيانهم الديني المتمثل في حركة (الشباب المؤمن)، اللذين جاءا في بداية التسعينيات، لم يكونا بعيدين عن أعين النظام الحاكم؛ فقد غض الطرف عن تكونهما لغايات سياسية لم تُفَعَّل إلا بعد حرب صيف 1994م التي تخلص فيها من قوة الحزب الاشتراكي العتيدة.
ولعل وعيه بقوة الحضور السياسي والعسكري للإخوان المسلمين الممثلين بحزب الإصلاح الذي تحالف معه ومع غيره من الجهاديين العائدين من أفغانستان لدحر الاشتراكيين، هو الذي جعله يتيح، هذا إذا لم نقل يدعم، لحزب الحق ولحركة الشباب المؤمن ممارسة بعض النشاطات السياسية والدعوية؛ لكي يحد من اتساع شعبية الإصلاحيين حين تقام الانتخابات.
وبمجيء العام 2001م، جاءت الفرصة الثانية لضرب خصومه السياسيين وإضعافهم؛ إذ هيأت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي ضُرب فيها برجا التجارة في نيويورك، لتلك الفرصة التي استغل فيها النظام الحاكم طموح الزيديين الذين بدأوا يهيئون لكيان جديد منبثق عن الكيان الديني السابق بقيادة حسين بدر الدين الحوثي.
وبما أن هذا الكيان الجديد، الذي وسم بـ(أنصار الله) من قبل أصحابه وبـ(الحوثية) من قبل الطرف المعادي له، أتى ليناهض النظام الحاكم؛ فقد استغل رأس النظام هذا الطارئ ليزج بخصومه السياسيين والعسكريين في محاربته تحت غطاء الدولة؛ لأهداف وغايات كثيرة تصب في صالحه، منها: إشغال الخصوم السياسيين المتدينين بحرب طائفية تلهيهم عن العمل السياسي، وإرضاء الولايات المتحدة بمحاربة من يجاهر بعدائها والزج بمن تراهم إرهابيين في حروب بعيدة عنها، واستدرار أموال دول الخليج تحت ذريعة محاربة من يشكلون خطراً عليهم، والأمر الأهم هو: إطالة أمد الحرب؛ لكي ينهك قوات الجنرال علي محسن الأحمر (الفرقة الأولى مدرع) التي كلفت بمحاربة الحوثيين، وسعيه لإنهاكها يأتي من خشية وقوفها ضد القوة العسكرية الناشئة (الحرس الجمهوري) التي استحدثت؛ لتهيئ الحكم مستقبلاً لبديل بعينه.
من هنا يمكن أن نفهم امتداد المواجهات مع الحوثيين إلى ست حروب قتل في الأولى منها 2004م مؤسس الحركة حسين بدر الدين الحوثي، وخلفه عليها من بعده أخوه الأصغر عبد الملك الحوثي الذي تزعم الحركة طوال خمس حروب لاحقة مع فرقة علي محسن التي كانت تستوقف في لحظات حاسمة من القتال وتترك بعض ألويتها تتساقط بيسر وسهولة وبطرق غامضة. كما يجب التنويه إلى أن الحركة خاضت حرباً واحدة مع الجارة السعودية.
وبمجيء أحداث/ثورة 2011م، التي انهار فيها نظام صالح بعد إسناد الجنرال محسن وفرقته لها ولمطالبها، انضم أنصار الله إلى الساحات المنادية بإسقاط صالح ونظامه. وبعد سقوطه بعامين، بدأت تحركاتهم العسكرية تتجه صوب محافظة عمران متذرعة بذرائع مختلفة؛ فسقطت عمران في أيديهم دون أن يلقى اللواء التابع لفرقة محسن أي إسناد بَرِّي أو أي غطاء جوي، ثم اتجهت مليشياتهم العسكرية نحو العاصمة صنعاء التي سقطت في أيديهم سقوطاً هوليودياً قاومته فرقة محسن وبعض مليشيات جامعة الإيمان اللتين لم تتلقيا أي إسناد من المؤسستين العسكرية والأمنية. بعد ذلك، تساقطت مدن أخرى في أيديهم دون أية مقاومة تذكر للجيش، ولكن هذه المليشيات، حينما وصلت إلى المناطق الشافعية جنوباً، تراجع تمددها السريع كثيراً؛ لأنها لا تملك الحاضنة الشعبية لها هناك، ولأنها قوبلت بتنظيم القاعدة وبعض رجال القبائل الرافضين لها، ولأن هذا التمدد بدأ يفرز متغيرات على اللعبة السياسية الدائرة بين القوى المتصارعة والداعمة؛ ولذا تراجعت سرعة التمدد هناك وازدادت حدة المواجهات التي ما زالت مستمرة إلى اليوم.
وتحت ذريعة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني وتنفيذ ما تضمنته وثيقة السلم والشراكة وتعديل مسودة الدستور وتهذيبها ومحاربة القاعدة في مأرب التي سيطرت فيها القاعدة على معسكر للدولة، ونهبت أسلحته وعتاده، دخل الحوثيون في شد وجذب مع الرئيس هادي وحكومة الكفاءات، انتهت بمواجهة مسلحة مع حرس الحماية الرئاسية في كل من دار الرئاسة والبيت الذي يقطنه الرئيس هادي، لا ليبعدوه، ولكن ليضغطوا عليه ويزيدوا من تضييق الخناق على رقاب الرؤى المخالفة لرؤاهم؛ حتى تلبى مطالبهم. وقد أسفرت هذه المواجهات عن تقديم الرئيس هادي وحكومة الكفاءات الاستقالة، كما أسفرت عن مطاردة بعض الوزراء ووضعهم، مع رئيسهم، تحت الإقامة الجبرية غير المعلنة والتي يفرضها واقع الأمر.
وهذه الاستقالة التي يُتوقع أن تُدخل اليمن في حالة فراغ سياسي وتعده بمصير يشابه مصير ليبيا اليوم، لم تكن في حساب الحوثيين الذين يريدون استمرار شرعية هادي؛ لأنهم يرون أنه من خلاله سيستطيعون نقل السلطة إليهم بطريقة مشروعة، خاصة وأنهم يسعون إلى فرض تعيينات تجعلهم يمسكون بكل مفاصل الدولة، ومنها، على سبيل المثال، سعيهم الحثيث إلى فرض تعيين نائب للرئيس تؤول إليه، حسب الدستور اليمني، رئاسة البلاد إذا ما تخلى الرئيس عن منصبه أو أبعد منه؛ أي إنهم يريدون نقل السلطة إليهم، حسب بعض التحليلات، تحت مظلة الشرعية؛ لكي لا يتألب عليهم الرأي العام في الداخل والخارج.
ولكن خطوة الاستقالة التي اتخذها هادي والحكومة، قطعت السبيل أمام مخططهم الذيفشل ودفعهم إلى اتخاذ وسيلة أكثر عنفاً وأقل حضارية، تجسدت في الإعلان الدستوري الذي أحلوا فيه مجلس النواب وفرضوا مجلساً رئاسياً مكوناً من خمسة أعضاء وعينوا أحد قيادتهم حاكماً جديداً لليمن وشكلوا لجنة أمنية عليا وجعلوا مآل اليمن ومصيره في قبضة مرجعيتهم التي أسموها باللجان الثورية، وهم بإعلانهم الدستوري هذا تجاهلوا دستور الجمهورية اليمنية الذي ينص على أن يكون رئيس مجلس النواب، الذي انتهت مدته القانونية من سنوات خلت، رئيساً للبلاد، وحرموا بعض القوى السياسية من حقها الديمقراطي؛ الأمر الذي وسع من دائرة الرفض لهذا الإعلان على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وأشعر قطاعاً عريضاً من الجماهير اليمنية أن بذرة الديمقراطية وئدت بعد أن تلقت رصاصة غير رحيمة.
وفي ظل الأحداث المتسارعة التي قد لا يستطيع الملف ملاحقتها حتى وقت صياغته وبرمجته للنشر، ليس لنا إلا أن نشير إلى أن الصمت المريب من قبل الدولة ومؤسساتها الدفاعية والأمنية ومن قبل معظم القوى السياسية المحلية والقوى الإقليمية والدولية قبيل المواجهات الأخيرة وقبيل استقالة الرئيس والحكومة، تجاه التمدد السريع لأنصار الله الحوثيين، لا يكشف إلا عن تصالب مصالح هذه القوى ووقوفها ضد مصالح قوى أخرى، كما أن الخروج من دائرة الصمت بعد الإعلان الدستوري من قبل القوى نفسها يكشف عن قلقها على مصالحها وعن استراتيجيات ومخططات غير بريئة تحاك لليمن واليمنيين. هذه الأمور كلها هيما نتوخى أن يتكفل الملف بكشفها وكشف كثير مما يتعلق بحركة أنصار الله الحوثية وبخطابها الإعلامي الرسمي وغير الرسمي وبسياساتها وتحالفاتها واستراتيجياتها في السلم والحرب، وغير ذلك من القضايا والأحداث التي ألمحنا إليها في عجالتنا التقديمية هذه.
*باحث أكاديمي يمني