وأخيرا، عاد المغرب إلى أحضان أسرته الأفريقية من الباب الواسع، مع الترحيب الشامل الذي لم تنجح بعض الأصوات “النشاز” في التشويش على وضوحه وصفائه وقوته. ولعل الاستقبال الحار الذي حظي به جلالة الملك محمد السادس وهو يدخل قاعة الاجتماع، لخير دليل، لمن يحتاج لدليل إضافي، على عمق الحفاوة التي تحيط بها معظم دول القارة السمراء المغرب ومليكها.
وتتويجا لهذه اللحظة التاريخية، جاء الخطاب الملكي حميميا، واضحا، يحمل من رسائل التضامن والتصميم ما هو كفيل بالرد على من تبقى من خصومه الأفارقة. إن المغرب الذي لم يغب يوما عن قارته، حرص طيلة فترة شغور مقعده التي جاءت لظروف موضوعية يعلمها الجميع، على توثيق علاقاته السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية مع مختلف دول القارة في جهاتها الأربع، من خلال زيارات ملكية شخصية تجاوزت ال 45 زيارة إلى نصف بلدان القارة، كما لم يفعل أي زعيم أفريقي آخر، أشرف خلالها على توقيع قرابة ألف اتفاقية، تكرس وتترجم قناعة المغرب بضرورة التعاون جنوب- جنوب، وأن توضع الخبرات المغربية المتعددة في خدمة تنمية أوضاع القارة ومواطنيها، وهو الأمر الذي اكتفى الملك محمد السادس باستعراض أبرز نماذجه الفارقة، من قبيل خط الغاز الأفريقي الأطلسي الذي سيخترق ويوفر الكهرباء لبلدان غرب أفريقيا بأكملها، ناهيك عن وضع الفوسفات المغربي في خدمة الهدف السامي المتمثل في توفير الأمن الغذائي لأبناء القارة السمراء، من خلال المشاريع الكبرى التي دشنت في كل من أثيوبيا ونيجيريا.
إيمان المغرب بضرورة الاهتمام بإنسان هذه القارة، ترجم، إضافة إلى ما سبق، من خلال فتح مؤسسات التكوين المغربية في وجه الطلبة الأفارقة، وكذا تكوين الأئمة عبر مناهج المملكة المتقدمة، ناهيك عن التعاون الأمني، والانخراط في عمليات حفظ السلام وكذا البحث عن تسويات سياسية بين الفرقاء المتخاصمين، حقنا للدماء وصونا لمصالح المواطنين، وحفاظا على مقدرات وثروات هذه الدول من التبديد والضياع، وأخيرا وليس آخرا، تمتيعه لعشرات آلاف الأفارقة الذين اختاروا المغرب كوجهة، من شروط العيش الكريم، بمنحهم إقامات شرعية تفتح لهم أبواب العمل والتعليم والصحة، وهي المبادرة التي تضاهي وتتفوق على ما هو معمول به في كبريات الديمقراطيات العالمية، وبشكل لا مثيل له في مختلف دول القارة السمراء، التي يعاني مواطنو أفريقيا جنوب الصحراء الإهانة والمعاملة غير الإنسانية في غير واحد من بلدانها.
ذكاء الملك محمد السادس تجلى من خلال التعريج على أوضاع المغرب العربي، من على هذا المنبر الأفريقي بالذات، بالتذكير بداية بأنه أقل جهات القارة اندماجا، بحجم تجارة بينية تقل عن ثلاثة بالمائة، ليطلق بعدها صرخته المدوية “غير أنه من الواضح، أن شعلة اتحاد المغرب العربي قد انطفأت، في ظل غياب الإيمان بمصير مشترك. فالحلم المغاربي، الذي ناضل من أجله جيل الرواد في الخمسينيات من القرن الماضي، يتعرض اليوم للخيانة”. صرخة تحمل إدانة واضحة للمسؤولين عن خلق واستدامة هذا الوضع الشاذ، من المتنفذين في السلطة الجزائرية، الذين يمعنون في عنادهم بإغلاق حدودهم في وجه تدفق الأشخاص والسلع بين أقطار المغرب الكبير، بدون مبررات معقولة، وكذا عبر الاستمرار في دعم حركة انفصالية اتضح اليوم لجميع الأفارقة ضآلة حجمها وخطورة استمرارها، محذرا في النهاية بأنه إذا لم يتم الاقتداء بباقي التجمعات الأفريقية السائرة في طريق الاندماج، فإن “الاتحاد المغاربي سينحل بسبب عجزه المزمن على الاستجابة للطموحات التي حددتها معاهدة مراكش التأسيسية، منذ 28 سنة خلت”.
وفي ما بدا محاولة لبث روح جديدة في القارة السمراء، باعتماد مقاربة جديدة لإدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أكد العاهل المغربي على ضرورة التوقف عن النظر شمالا استلهاما للحلول ونيل شهادات الاعتراف. فمع جيل جديد من القادة المتخلصين من عقد الماضي، وانتهاء التصنيفات التقليدية للعوالم أولها وثالثها، تتضح الحاجة إلى المضي قدما في نموذج أفريقي للتنمية لا يستلهم نماذج غربية مشكوك في نجاعتها، بدليل أن معظم الدول الغربية، تعجز عمليا، ومنذ زمن بعيد، عن تحقيق نسب النمو المتحققة في القارة السمراء، منتقدا محاولات الغرب لإملاء نماذجه التنموية، وما أسماه جلالته “إنتهازية اقتصادية” تمارسها الدول والمؤسسات الغربية في تعاملها مع دول القارة السمراء.
وكخلاصة، فقد أكد هذا الخطاب القوي والواضح للملك محمد السادس، صواب اختيار الدول الأفريقية التي دعمت استرجاع المغرب لمقعده، على اعتبار أن وجوده سيكرس الوحدة والأمن والعمل المشترك داخل القارة، وهو ما فتئ المغرب يؤكده بالأقوال، ويترجمه بالمبادرات والأعمال.