في نظر البعض، لا تنحصر تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الآثار الاقتصادية على البلدين والمستقبل السياسي للاتحاد، بل تمتد إلى إعادة رسم الخريطة الجيوستراتيجية الدولية .
في مقال حول هذا الموضوع، كتب الباحث الفرنسي المثير للجدل تيري ميسون أن المعلقين السياسيين فقدوا معرفة الرهانات الدولية ما أفقدهم حسن تأويل الأحداث، حيث صبوا اهتمامهم على الحديث عن معاداة سياسة الهجرة غير الخاضعة للسيطرة لتفسير أسباب الانسحاب، ومن جهة أخرى الوعيد الذي وجهته الدول الأوروبية للمملكة المتحدة.
بكثير من الوثوقية تحدث تيري ميسون عن كون الرهانات المرتبطة بقرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي مرتبطا بما ذكر من مواضيع، معتبرا أن التركيز على هذه الجوانب يظهر البون الشاسع الحاصل ما بين الواقع والخطاب السياسي والإعلامي ويبرز بجلاء المرض الذي تعاني منه النخب الغربية وهو “افتقادها للكفاءة”.
ميسون قال إنه في الوقت الذي يتمزق فيها الشراع أمام أعيننا، تواصل النخب الغربية عدم استيعابها للموقف على غرار الحزب الشيوعي الذي لم يكن يتوقع تبعات انهيار جدار برلين عام 1989، وما تلاه من تفكك للاتحاد السوفياتي في 1991 ومعه مجلس الدعم الاقتصادي المتبادل (كوميكون) وحلف وارسو في نفس السنة، فضلا عن محاولات تفكيك روسيا نفسها التي كادت أن تفقد الشيشان.
صاحب كتاب “الخديعة الكبرى” قدم سيناريو مثير من خلال قوله إنه في المستقبل القريب سنشهد عملية تفكيك للاتحاد الأوروبي ومن ثم “حلف شمال الأطلنتي” (ناتو) وربما تفكك الولايات المتحدة نفسها إذا لم تنتبه إلى ذلك.
في تحليله للدوافع والمصالح وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ذكر تيري ميسون بكون الدعوة إلى الاستفتاء في بريطانيا لم تصدر عن “حزب استقلال المملكة المتحدة” بزعامة نايجل فاراج، بل إن الاستفتاء فرض على رئيس الحكومة البريطاني ديفيد كاميرون من طرف أعضاء من “حزب المحافظين” الذي يقوده.
سياسة لندن يجب أن تكون في نظر هؤلاء في تناغم مع تطورات العالم، وهو يرون كيف أن الولايات المتحدة لم تعد هي القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم، وبالتالي لم تعد هناك ضرورة لاستمرار الشراكة المميزة بين البلدين.
فكما لم تتررد مارغاريت تاتشر في تدمير الصناعة البريطانية من أجل تحويل بلدها إلى مركز مالي عالمي، لم يتوانى هؤلاء المحافظون في فتح الباب أمام استقلال اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، ما يعني فقدان بترول بحر الشمال، من أجل جعل لندن أول مركز مالي ما وراء البحار “أوفشور” لليوان الصيني.
حملة مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، يضيف تيري ميسون، لقيت دعما كبير من قبل قصر باكنغهام وعلية القوم في بريطانيا، حيث عمدوا إلى تعبئة الصحافة الشعبية من أجل الدعوة إلى الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي.
وعلى عكس ما تطرحه الصحافة الأوروبية من شروحات، يقول الكاتب الفرنسية بوثوق دائما، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يتم ببطء لأن الاتحاد سينهار بسرعة أكبر مما سيتطلبه الأمر من مفاوضات بيروقراطية لإتمام مسلسل الانسحاب، مستدلا بذلك بدول “كوميكون” التي لم تحتج إلى إنهاء مسار المفاوضات بشأن خروجها قبل أن ينهار الاتحاد.
في هذا الإطار، يرى الباحث المثير للجدل أن الدول الأوروبية التي ما تزال متعلقة بالأغصان وتأمل في إنقاذ ما بقي من الاتحاد الأوروبي ستفوت فرصة التأقلم مع المعطى الجديد ما يهدد بتعرضها لمخاض السنوات الأولى العسيرة التي مرت منها روسيا الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي: انهيار كبير في مستوى العيش وأمد الحياة.
على عكس القراءات التي تمت للخروج البريطاني يرى تيري ميسون أن هذا الانسحاب ما إلا رد على أفول الولايات المتحدة. هذا الأفول هو ما يعكسه أيضا فشل وزارة الدفاع الأمريكية “بنتاغون” في إرغام حلفائها على الرفع من ميزانية الدفاع “لدعم مغامراتها العسكرية”.
ما الذي سيتغير؟
تيري ميسون مضى في تحليله المثير للاستغراب ولا شك بالنسبة للبعض، حيث قال إن جدار برلين لم يتم إسقاطه من قبل مناوئين للشيوعية بل من قبل شباب شيوعيين في تحالف مع الكنائس اللوثرية من أجل إعادة بناء المثل الشيوعية بعد التخلص من وصاية الاتحاد السوفياتي والبوليس السياسي والبيروقراطية، لكنهم تعرضوا للخيانة من قبل النخب التي اختارت الارتماء في أحضان الولايات المتحدة لخدمتها كما خدمت الاتحاد السوفياتي بنفس الحماس.
في منحى مشابه أراد الناخبون الأكثر التزاما الذي صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي أرادوا استعادة سيادتها الوطنية وجعل القادة الأوروبيين يدفعون ثمن عنجهيتهم التي أبانوا عنها من خلال فرض اتفاقية لشبونة بعد الرفض الشعبي للدستور الأوروبي في 2004 و2007، لكن هؤلاء قد يتعرضون بدورهم لخيبة الأمل من ما سيحدث في المستقبل.
خروج بريطانيا يمثل حسب ميسون نهاية الهيمنة الأيديولوجية للولايات المتحدة ولديمقراطية الحريات الأربع كما عرضها فرانكلين روزفلت عام 1941 في خطابه حول حالة الاتحاد، حين حددها في 1- حرية الكلام والتعبير 2- حرية التعبد 3- حرية تحديد الحاجيات 4- حرية الخوف (من تدخل أجنبي). هذا الانسحاب يؤشر كذلك على نهاية الهيمنة العسكرية والاقتصادية الأمريكية حسب ميسون.
تبعات الخروج البريطاني على أوروبا والمملكة المتحدة
في تحليله المطول لتبعات الخروج البريطاني، قال تيري ميسون أنه خلال معارضة النقابات الفرنسية لمشروع قانون العمل، اكتشفت أن من صاغوه اعتمد على تقرير للاتحاد الأوروبي هو نفسه قائم على التوصيات الأمريكي، ليكتشفوا الدور الأمريكي الأوروبي في المسألة.
هذا القانون هو انعكاس للتأثير الأمريكي القائم على تعليمات البروفيسور جوزيف كوربل الذي يقول إنه لكي تضمن واشنطن سيطرتها على العالم، ينبغي عليها فرض إعادة قراءة للعلاقات الدولية على ضوء القانون الأنجلو ساكسوني.
من خلال السعي إلى فرض منطق العقدة على حساب القانون، يضمن القانون الأنجلوساكسوني امتيازات الأغنياء على حساب الفقراء. لذلك، يرى ميسون أن الفرنسيين والهولنديين والدنماركيين الراغبين في الانفصال عن الاتحاد الأوروبي يجب عليهم بداية مواجهة الطبقة الحاكمة.
ميسون يرى أنه لا يمكن التنبؤ بمآل هذا الصراع، لكنه واثق بأن العمال الفرنسية يصعب التلاعب بهم على عكس نظرائهم الإنجليز الأقل تنظيما.
بالنسبة لبريطانيا، يتوقع تيري ميسون أن لا تنتظر حتى خروجها النهائي من الاتحاد الأوروبي لكي تبدأ في النأي بنفسها عن السياسات التي تفرض عقوبات على روسيا وسوريا.
أما مدينة لندن، القطب المالي، فقد اعتبر الكاتب الفرنسي أنها غير معنية مباشرة بالخروج البريطاني لأنها دائما استفادة من وضع دولة مستقلة، مضيفا أنها قد تستغل سيادتها للبدء في تطوير سوق اليوان وتعزيز أنشطتها التي تجعل منها جنة ضريبية للأوروبيين.
وإذا كان الانسحاب البريطاني قد يخلخل اقتصاد البلاد مؤقتا، يعتقد ميسون أن المملكة المتحدة، أو على الأقل إنجلترا، ستتعافى بسرعة وستستفيد من الوضع الحالي، في حين يبقى السؤال حول ما إذا كان من دبروا هذا الزلزال سيقبلون بأن يستفيد الشعب معهم. فخروج بريطانيا قد يعني عودة السيادة الوطنية، لكنه لا يضمن بالضرورة السيادة الشعبية.
على مستوى الخريطة الجيوستراتيجية الدولية قد تتطور الأمور بشكل مختلف حسب ردود الأفعال، مضيفا أنه بالرغم من كون الأمور قد تسوء بالنسبة لبعض الشعوب، يبقى دائما من الأفضل الانتباه إلى الواقع كما فعل البريطانيون بدل الإصرار على الاستمرار في حلم سيتكسر.