تعيش المغرب هذه الأيام على إيقاع معركة انتخابية حاسمة تخص اختيار من ستسند إليهم مهمة إدارة الشأن العام في الجهات ال 12. أهمية تستمدها هذه الانتخابات الجماعية مما أعطاه الدستور الجديد لهذه الجهات والمشرفين على إدارة شؤونها من صلاحيات. ومن الطبيعي هنا، أن تنشط الأحزاب المختلفة في مخاطبة المواطنين من أجل دفعهم للقدوم يوم الرابع من سبتمبر المقبل إلى صناديق الاقتراع، وثانيا من أجل وضع ورقة تحمل الرمز الانتخابي لهذا الحزب أو ذاك. مهمة تبدو في غاية الصعوبة نظرا للعديد من العوامل، سنحاول بعجالة أن نستعرض أبرزها:
- تاريخ مشاركة المواطنين في العمليات الانتخابية السابقة يقول بأنها عادة ما تكون مقبولة النسب في القرى والبوادي فقط، مقابل ضعفها العام في المدن، ولا يتوقع أن تختلف الصورة الآن. ويعود هذا الأمر أساسا إلى ضعف ثقة المواطنين في العملية السياسية عموما، والانتخابات على وجه الخصوص، رغم ما عرفته من تحسن مشهود في شروطها منذ عقدين على الأقل، ووصولها إلى مكانة غير مسبوقة عربيا، ونقصد “نتائج غير مطعون في نزاهتها من قبل جميع المشاركين رابحين وخاسرين”.
- ضعف ثقة المواطنين بالأحزاب المشاركة على اختلاف توجهاتها. ويزيد من هذه الظاهرة أن الأحزاب نفسها لا تنشط وسط المواطنين وتخاطبهم وتتواصل معهم وتقوم بمبادرات لخدمة وتحسين ظروف معيشتهم إلا مرة كل خمس سنوات، عندما يحين وقت دعوة الناخبين إلى صناديق الاقتراع. وهو نشاط، للمفارقة، يزيد من تشكيك المواطنين في فعالية ونزاهة هذه الأحزاب، التي ينظرون إلى “كرمها الانتخابي” على أنه “رشوة” للناخبين من طرف بعض المنتخبين، ومحاولة لإفراغ الخزينة تحسبا لعدم إعادة انتخابهم من قبل البعض الآخر. إن تغيير مقاربة الأحزاب لدورها السياسي وعلاقتها بالمواطنين، وهو الأمر الذي ما فتئ العاهل المغربي الملك محمد السادس ينبه إلى ضرورة القيام به، لا يتم إلا عبر تغيير ثقافة ممارسة العمل السياسي داخل هذه الأحزاب وفيما بينها.
- ارتباطا بالنقطة السابقة، هناك غياب واضح للبرامج المتمايزة التي تحفز المواطن على الاختيار فيما بينها. فالكل يتحدث نفس اللغة الانتخابية، في تكرار ممجوج لنفس الشعارات المتداولة في كل مناسبة انتخابية، والتي يحلو للأحزاب أن تسميها برامج. إن غياب البرامج يحوّل الانتخابات، في نظر الأحزاب، إلى عملية استقطاب فردي بين رموز الأحزاب المشاركة في كل دائرة انتخابية، وهي العملية التي تجعل الأحزاب على اختلاف انتماءاتها تفضل ترشيح “شخصيات وازنة محليا” تتمتع بثقل اجتماعي وقدرة مالية للصرف على حملاتها الانتخابية “ومتطلباتها” بديلا لوضع برامج وصياغة خطط مجتمعية، مدروسة وقابلة للتنفيذ.
- غياب الإدراك الفعلي لدى المواطنين لما جاء به الدستور الجديد من صلاحيات للمجالس المنتخبة في إطار الجهوية الموسعة، وما يمكن أن ينعكس إيجابا على الحياة المباشرة لهم إذا ما أحسنوا اختيار ممثليهم فيها، ووضعوا الرجل المناسب في المكان المناسب.
هذه الأسباب المركبة والمترابطة، والتي عنوانها الأبرز ضعف أو غياب ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية والأحزاب والبرامج، لن يفيد في تغييرها إنفاق الدولة والأحزاب لمزيد من الأموال على الدعاية الانتخابية، وتوزيع الملصقات على عدد أكبر من وسائل النقل العمومي، وزيادة الساعات المخصصة للأحزاب للحديث عن ما تعتبره “برامج انتخابية”، لأن المواطنين ببساطة لا يشاهدونها، ويفضلون عليها أي مسلسل تركي أو مباراة في كرة القدم. لقد كان الأولى لهذا الجهد الدعائي أن يوجه إلى توعية المواطنين بحقوقهم في ظل الجهوية الموسعة، وكان أجدى للأحزاب، لو هي فعلا أرادت التعبير عن المواطنين وخدمتهم، أن تديم التواصل معهم طيلة العام، وتحسن صرف ما بين أيديها من أموال خدمة لهدف تحسين ظروف المعيشة اليومية للمواطنين، أما وقد أخلفت الموعد وفقدت هذه الفرصة، وأصرّت على ممارسة فعلها السياسي كما اعتادته على مدى العقود الماضية، فمن غير المنطقي أن ترجو نتيجة مغايرة لما كانت عليه سابقا، لمجرد أنها نوّعت من وسائل الدعاية واستخدمت التكنولوجيا الحديثة (فيسبوك وتويتر) في الترويج لنفسها.
المشكلة يا سادة ليست في الوصول إلى المواطنين، بل في التواصل معهم والتعبير عنهم والقيام بمبادرات خلّاقة لتحسين معيشتهم، حتى يرجعوا إلى ساحة الفعل الناضج الذي سيعود حتما بالخير كل الخير على المغرب وطنا ومواطنين.