ارتبط اسم الناشر والكاتب الفرنسي، فرانسوا ماسبيرو، الذي رحل يوم السبت الحادي عشر من ابريل؛ بحركات التحرر الوطني وكفاح الشعوب في القارات الثلاث: آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. عرف بقضاياها العادلة من خلال سلاح النشر الذي امتشقه وهو شاب في الثالثة والعشرين من العمر، لينتقم رمزيا من العسف الذي طال اسرته؛ فقد اقتيد والده الى معسكرات النازية خلال احتلال فرنسا، وتوفي شقيق له في المعارك التي خاضتها المقاومة الفرنسية.
ولم تنج من المحنة غير والدته، ولذلك فان، ماسبيرو، لا يحتسب في حياته السنوات التي سبقت محنة اسرته منتصف الاربعينيات، اذ يعتبر تاريخ إفلاته من الموت،ميلاده الحقيقي وبعثا له قبل يوم الحشر.
لم يجن الناشر الراحل، من الدور التي انشأها، ربحا ماديا ولا راكم ثروة بل انه تكبد خسائر متتالية، ليس من الرقابة التي خضعت لها اصدارات الدار في البلدان التي يفترض ان تسوق فيها كتبه على نطاق واسع ؛ وإنما ايضا من السرقات الموصوفة التي اقترفها الطلاب الثوريون،ومنهم العرب والمغاربة، في باريس خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، حيث انتشرت الأفكار الثورية.
وكان، ماسبيرو، على علم بمدى النهب الذي تتعرض له يوميا مكتبته “فرحة القراءة” بالحي اللاتيني. يرى النسخ تختفي من الرفوف في رمشة عين كلما وفد “كوماندو” من طلاب متعطشين للمعرفة، بينما الصندوق فارغ من النقود. متعاطفون كثيرون نبهوا الناشر واخبروه بالدليل الملموس ان كتبه المسروقة في واضحة النهار وعتمة المساء، يعاد بيعها بأسعار بخسة،على مسافة امتار من مكتبته.
تسامح الناشر مع مرض “الكليپتومانيا” الثورية التي كانت سارية بين الطلاب الفقراء في ذلك الوقت، اعتقادا منه ان اللصوص التقدميين، لا يسرقون من اجل السرقة وانما اعجابا بالقضايا الثورية التي تحتويها منشورات ماسبيرو وعلى اعتبار ايضا ان ذات أيديهم قليلة،ولذلك فلا مانع عنده ان يتدرب الطلاب، على تطبيق مبادئ الاشتراكية والاستيلاء على وسائل الانتاج بعنف ثوري، في حق حليفهم الاول ومروج افكار الاشتراكية التي يؤمنون بها.
لم يحبس،ماسبيرو، النشر في دائرة ضيقة. يمكن القول بانه ناشر تقدمي، بالمعنى العريض والاطرائي للكلمة. راهن على اسماء من العالم الثالث، قدر لها ان تكتب باللغة الفرنسية واصطدمت بحاجز النشر في فرنسا. تبنى مؤلفاتهم وكانت ذات نكهة ثقافية لا تستسيغها كل دور النشر الفرنسية،بما فيها اليسارية التي حصرت نفسها ضمن خانة ضيقة، لا تخرج عن دائرة الماركسية التقليدية.
“ماسبيرو ” تسري في عروقه روح الانجذاب نحو الشرق : جده من الاب هو العالم الشهير المختص في تاريخ مصر القديم، واسمه مخلد في الشارع الذي يوجد به مبنى الاذاعة والتلفزيون المصري بالقاهرة. اما والده فكان مختصا في تاريخ الصين، وكلاهما، الأبد والجد ارتقيا الى كرسي الاستاذية في “الكوليج دو فرانس”.
انفتح الحفيد،فرانسوا،على بيئات ثقافية مغايرة لتوجهات أبيه وجده، لكنه التقى معهما في الولع بالمغامرة الانسانية الرحبة والتقصي عن المشترك العميق،المتجذر بين الثقافات والحضارات والشعوب.
وحيث ان قيم الاستشراق وسحر وجاذبية الشرق، شكلت هاجس وبوصلة العلماء والادباء والمؤرخين الفرنسيين بعد غزو نابليون، فقد اختار المنتسب الى “آل ماسبيرو” السير في تخوم عالمثالثية، فكان له فضل التعريف بأسماء لم تخيب ظنه لاحقا. نشر الطبعة الاولى لكتاب الايديولوجية العربية المعاصرة، لعبد الله العروي، منتصف الستينيات، ولم يكن المؤلف معروفا في الغرب، كما ان كتابه، عميق وصعب حتى على الفرنسيين، بشهادة من كتبوا عنه حين صدوره، فكان حدثا فكريا.
وفيما بعد، نشر للعروي اطروحته “اصول الوطنية المغربية” وكتاب “مجمل تاريخ المغرب العربي” وكلها كتب ظلت ممنوعة من التداول في المغرب الى غاية الثمانينيات،دون صدور قرار صريح مكتوب يحظرها، لدرجة ان المعارضة الاتحادية وجهت سؤالا في البرلمان الى وزير الاعلام الراحل محمد العربي الخطابي عن اسباب منح كتاب “أصول الوطنية (القومية) المغربية” فاطلق الوزير جوابه الشهير “لا تسألوني عن أشياء أنتم أعلم بها مني”!!
وراهن، ماسبيرو، على اسم الروائي المغربي الطاهر بن جلون، فأصدر له مجموعته الشعرية الاولى.
وكذلك كان تعامله مع أسماء اخرى من المغرب والشرق العربي الى ان تخلى عن الدار في صفقة غبر رابحة إطلاقا، فاصبح اسمها “منشورات لا ديكوفرت”.
ربما ربح الناشر الراحل قليلا من كتبه، فهو روائي ومترجم وباحث.
*تعليق الصورة: الناشر فرانسوا ماسبيرو