يأتي هذا الكتاب بعنوان “علامات الزمن المغربي الراهن“، و هو ثمرة مجهود كبير، ليؤكد موسوعية صاحبه محمد أديب السلاوي و شمولية معارفه، تحليله العلمي و شفافية أسلوبه و مواقفه الوطنية و الإنسانية المشرفة. بعد إنتاجات غزيرة من المؤلفات تناهز الأربعين كتابا في مجالات متعددة ينضاف هذا العمل القيم لإغناء المكتبات المغربية و العربية لما يختزنه من أفكار نيرة و مواقف ناضجة يستفيد منها القراء من مختلف التخصصات و التوجهات.إنه بحق عمل يستحق القراءة والتأمل والمناقشة لما يحمله في طياته من معلومات مركزة و عميقة.
قسم الكاتب هذا العمل إلى محاور خمسة: “علامات من عمق هويتنا“، ” تمظهرات من عمق تطلعاتنا “، “علامات من صلب الزمن الراهن“، “كلمات لنا، لا لغيرنا“، و”آفات تحاصرنا في البداية والختام“. كما تتضمن هذه المحاور مفاهيم ومصطلحات عدة ينتقل القارئ عبرها في رحلة ثقافية مشوقة ومتسلسلة تسلسلا مترابطا ومتينا. ونظرا للمادة أو المواد التي يعالجها الباحث فقد اختار منهجا يتسم بالجدة و الانسجام و الدقة في الإنجاز.
نظرة سريعة على الفهرس تغري القارئ وتثير فضوله، فيجد كل من رجال الثقافة والدين والسياسة والتاريخ والأدب والصحافة وغيرهم ما يشفي غليلهم. أما العنوان فهو دليل القارئ الذي يرشده إلى الموضوع الأساس، ألا وهو “علامات الزمن المغربي الراهن” الذي يعطي وحدة متراصة للعمل ككل. اختار المؤلف عددا هائلا من المفاهيم والمصطلحات كثيرة التداول لكنها قليلة الفهم، من حقول معرفية متنوعة فوضعها تحت المجهر منقبا في القواميس من لغات و تخصصات مختلفة، من كتب التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والدين و المقالات الصحفية. كل هذا الزخم من المعلومات يمر عبر مصفاة ذهن الكاتب ليستخرج منه الدر الكامن، لب الدلالات و المعاني. عملية ذهنية تصب في اتجاه واحد و هو إضاءة الزمن المغربي الراهن ليضع الصورة كاملة، واضحة جلية أمام القارئ.
سؤال قد يتبادر إلى الذهن : ما الهدف من وراء هذه القائمة من المفاهيم و المصطلحات؟ هل هو مجرد تعريف و تحديد لها كما ورد في القواميس و الموسوعات؟ أم أن الكاتب يتجاوز ذلك إلى ما هو أدق و أعمق و أبعد؟ .
أجل، إن المنهج البديل الذي يتبناه في هذا المؤلف يقود صاحبه إلى ما وراء القواميس والموسوعات فيتفادى اجترار الأفكار أو تكرارها. عند كل مفهوم على حدة يقف المؤلف و يبحر في دلالاته في الماضي و الحاضر و كيف يمكن أن يتطور في المستقبل. يحلل المفهوم معجميا ثم ينتقل من مجال إلى آخر من حقبة تاريخية إلى أخرى و من سياق إلى آخر مدركا أن اللغة تتلون مثل الحرباء وتتطور بتطور الزمان و المكان إلى أن يصل إلى الزمن الراهن، و تحديدا إلى الزمن المغربي الراهن.
يتتبع الباحث ما يطرأ على هذه المفاهيم من تحولات أو مسخ من منظورات وزوايا مختلفة. خطوة خطوة يتقدم التحليل مضيفا المعلومة تلو الأخرى إلى أن يستوفي الباحث غرضه. من هنا يمكن اعتبار مقاربته تفكيكية حيث يجزأ المفهوم تجزيئا ثم يستخلص منه الأفكار الرئيسية. تتناسل دلالات كل مفهوم و تتسع فتتجمع في النهاية. ينظر الكاتب إلى هذه المفاهيم من كل زاوية لتطويقها و إبراز معانيها المختلفة فيميط اللثام عن غموضها و التباسها. كما أنه يورد المفهوم و ضده لكي تتضح الرؤية أكثر، فالشيء بضده يدرك. و تجدر الإشارة أيضا إلى كيفية معالجته للإشكاليات المرتبطة بالمفاهيم المتناولة، وهي طريقة موضوعية تتجنب ضيق الرؤية و التحيز.
والمقصود من هذا هو توضيح دلالات كل مفهوم حسب ما يمليه سياقه التاريخي و الاجتماعي و السياسي و الجغرافي أو كما تقترحه مختلف المجالات الفكرية، فلسفية أو نفسية أو أدبية فنية. إنه فعلا يعطي لكل مفهوم حقه كما يفهم في زمانه و مكانه. و لعل هذه المقاربة تنسجم مع و تخضع لنظرية النسبية. و يمتاز هذا العمل أيضا بطريقة طرح الأسئلة و الأجوبة عنها، و هو أسلوب يتميز به الكاتب محمد أديب السلاوي لإشراك متلقيه واحترام رأيه. فماذا يفهم القارئ من خلال هذه الأسئلة ؟ لنأخذ على سبيل المثال هذا النموذج المتعلق بمفهوم الإصلاح. يتساءل الكاتب : “… هل استطاعت تلك الإصلاحات (أي في المغرب) تنظيف ساحة البلاد من أوجه الفساد المختلفة و تحديث المؤسسات والهياكل على أسس جديدة، لإعطاء المغرب وجوده الفعلي على “خريطة ” النظام…؟.
و بمعنى أدق، هل اتجهت تلك الإصلاحات الدستورية لتصفية جسد الفساد في معاقل المغرب؟ هل نظفت البلاد من آفة الرشوة و المحسوبية و استغلال النفوذ و الزبونية ؟ هل نظفتها من آفة المخدرات والجريمة والفسق العلني ؟ هل نظفتها من الأمراض التي تفشت في مجتمعنا بفعل سلطة الفساد و خبرة المفسدين ؟.
هل استطاعت القضاء على الظواهر السلبية التي أجلت دخول المغرب عصره التنموي الاقتصادي و الحضاري؟ هل استطاعت تلك الإصلاحات الحد من ظاهرة التخلف ؟ هل استطاعت فتح محاكمات علنية للمسؤولين عن الأزمة و الفساد ؟.
أسئلة معلقة. لم تجد لها خطابات الإصلاح، أجوبة شافية.”
و حول مفهوم “الحرية” يتساءل الكاتب قائلا:
“وأسئلة الحرية كثيرة:
هل هي تحطيم كل الطواغيت ؟
هل هي إلغاء كل الطابوهات ؟
هل هي الأمن على النفس والمال والإرث، أم هي حرية الرأي و التعبير، و حرية التفكير والاختيار والاعتقاد و باقي الحريات المرتبطة بقيم حقوق الإنسان و دولة القانون؟ ….”
إلى أن يقول:
“هل يعني ذلك، أن الحرية فكرة وهمية ؟ الذي يجب أن يكون، و لم يتحقق بعد ؟”.
إذن، يمكن القول بأن مقاربة هذه المفاهيم مقاربة نقدية تحليلية و ليست مجرد سرد أو مسح سطحي أو اجترار لما ورد عند الآخرين بل نجد الباحث يسائلها و يدلي برأيه. و بعد معالجتها و تطويقها نظريا و فلسفيا يضعها في محك الممارسة و التطبيق في الواقع. و هنا تكمن جدة و أصالة البحث. و إذا ظلت المؤلفات السابقة في معالجتها لمثل هذه المفاهيم و القضايا محدودة على مستوى النظري و التجريد و المثاليات، فإن الباحث محمد أديب السلاوي يختبرها على أرض الواقع و المدى الذي تشتغل أو لا تشتغل فيه. بالإضافة إلى تشريح و تفسير و تأويل هذه المصطلحات الشائعة فإنه يثير الانتباه إلى جوانبها الإيجابية و السلبية و يصحح المغالطات المتداولة حولها بالحجة و الأدلة.
نعم، إن محمد أديب السلاوي يؤكد لنا أن هذه المفاهيم لا ينبغي لنا اعتبارها كشعارات فقط بل أن ننظر إلى كيف تنتقل إلى الواقع المعاش. فهو لا يريدها أن تبقى حبيسة القواميس و كتب النظريات والفلسفة و التاريخ و غيرها من الكتب بل يعمل على إنزالها من برجها العاجي أو من عرشها لتتجسد على أرض الواقع، و إلا ما الجدوى من ذلك و خصوصا في واقعنا نحن؟ في سياق حديثه عن التقدم الاتصالاتي و التكنولوجي يتساءل قائلا:
“أين موقعنا نحن المغاربة.العرب / العالم السائر في طريق النمو، من الانفجار الاتصالاتي/ التكنولوجي؟ “.
وعندما يتطرق إلى مفهوم الزمن و تطوره، يتساءل :
” ثم ماذا يعني ذلك بالنسبة للزمن الراهن و لثقافتنا في العالم العربي؟ ”
إن محمد أديب السلاوي لا يخفي موقفه ورأيه من هذه القضايا أو تلك. فبالإضافة إلى الأجوبة المبطنة في الأسئلة ذاتها، و هي أسئلة بلاغية، يطالب بإلحاح بممارسات هذه المفاهيم على أرض الواقع حيث يقول: ” لا معنى لهذه المفاهيم فلسفيا و نظريا إن لم تحقق في الواقع…” .
ما يميز هذا العمل القيم هو حضور الجانب الثقافي و السياسي و الاجتماعي و الديني و الفلسفي جنبا إلى جنب، كما يؤكد الكاتب في مقدمته قائلا: ” و رغم أن السؤال السياسي حاضر بقوة في محاور هذا الكتاب، إلا أن هذا الحضور لا يلغي مطلقا الأسئلة الاجتماعية و الفلسفية الأخرى التي ترفع الستار عن المشاهد التي تشكل الصورة الكاملة لزمن المغرب الراهن في حدوده التاريخية، والتي ساهمت الدراسات العلمية في بلورتها.” و بالتالي يصبح الكتاب بمثابة قاموس معرفي بكل معنى الكلمة.
كما يتميز أيضا بوحدة الموضوع و الرؤية الثابتة. و إذا كان كل مفهوم أو مصطلح على حدة يركز على دلالاته عبر الزمن و في مجالات متنوعة، فإننا عند قراءة كل المفاهيم نشعر بأن هنالك خيطا متينا يربطها جميعا، إذ يضيء كل مفهوم المفهوم الآخر. تتداخل و تتراكب المفاهيم و القضايا، دون خلط، الشيء الذي يضفي على العمل برمته وحدة عضوية منسجمة. و ما أن تنتهي من قراءة مصطلح ما و تنتقل إلى آخر حتى يتوسع إدراكك و فهمك أكثر للمفهوم السابق، و هكذا… من “الحضارة” إلى “العنصرية” سيشعر القارئ بأن ذلك الربط المتين جلي و أن رصيده من المعلومات ينمو تدريجيا و تعود به الذاكرة إلى الخلف و تنظر إلى الأمام. و قد يتساءل المرء: “أليس الموضوع الأساس الذي يوحد كل الأجزاء هو الحياة البشرية بمفهومها الشامل؟ ”
أما ما يطبع معالجة هذه المفاهيم فنيا فهو ذلك النمط أو الشكل الذي اختاره صاحب الكتاب، وهو نمط ظل وفيا له و متشبثا به إلى النهاية، إنه الشكل الهندسي و المنطقي في تتبع الأفكار. يستعرض المؤلف ما ورد حول المصطلح/ التيمة من أفكار في المعاجم و الموسوعات العربية و الغربية، دلالاته في مختلف المجالات الفكرية (فلسفية، نفسية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية و فنية…)، ثم يختبرها على أرض الواقع، أي كيف تحقق أو لا تحقق، و أخيرا يربطها بالزمن المغربي الراهن، و هو بيت القصيد. وهذا النمط يشتغل بمثابة “الليتموتيف” الذي بفضله يرقى العمل ككل إلى الجمالية الراقية والانسجام ووحدة الأطروحة.
وختاما، انطلاقا من موسوعية الكاتب محمد أديب السلاوي وشمولية معارفه فإنه يحشد ويستحضر الفكر العالمي من الغرب و الشرق، من الماضي السحيق و الحاضر الراهن منتقيا أجود ما أنتجه الفكر البشري من حكمة. إن حضور الفلاسفة المسلمين والعرب جنبا إلى جنب مع المفكرين والعلماء الغربيين و ربطهم ربطا وثيقا لإنارة قضية من القضايا، يجعل هذا البحث ثريا وغنيا. يعتبر هذا العمل بوتقة من الأفكار من جميع الأجناس و الحقب التاريخية و التخصصات العلمية و الفنية، حيث يلتقي فيه الغرب بالشرق و الماضي بالحاضر والمستقبل حول مائدة مستديرة واحدة و في لحظة واحدة، يستنطقهم الباحث الأكاديمي والصحفي المتمرس. أجل، إن هذا الكتاب يعد بحق ملتقى الفكر العالمي وجسر الحضارات و الثقافات الكونية يقدم للقارئ زبدة دارس متفحص متمكن من أدواته غيور على وطنه و نصير لحقوق و كرامة الإنسان بشكل عام.
**********
الدكتور الجيلالي الكدية، كاتب وباحث، أستاذ اللغة والآداب الانجليزي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، (صدرت له العديد من الأعمال الإبداعية، والبحوث الأكاديمية في كل من المغرب وابريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية).