حث الباحثان المغربيان المتخصصان في الفكر الفلسفي، إدريس كثير وعادل حدجامي، على ضرورة إعادة الألق والتوهج للسؤال الفلسفي وشعلة الفلسفة في الواقع العربي المعاصر، وإيلاء الأهمية للفكر النقدي وللحرية الفكرية، لأنه من دونهما لا يمكن لأية نهضة فكرية عربية أن تتحقق.
وأثار الباحثان في الندوة التي نظمتها مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث” بـ “صالون جدل الثقافي”، مساء يوم السبت (18 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري) في مقرها الرئيس بحي أكدال – الرباط، حول موضوع “أي دور للفكر الفلسفي في الواقع العربي المعاصر؟”، الكثير من الأسئلة والإشكالات حول الفلسفة في عالمنا العربي المعاصر، خاصة أن خفوت شعلتها، كما قال كثير، وعدم الاهتمام بالحقيقة والخلود بالمعنى الأرسطي، واللذان تشتتا مع العلوم الحقة والدقيقة، وتطرحان اليوم أكثر من سؤال.
جاءت هذه الندوة، التي أدارها الباحث المغربي المتخصص في الفكر الإسلامي عبد الله الهداري، بعد ندوتين سابقتين افتتحت بهما مؤسسة مؤمنون بلا حدود في الشهر الماضي مقرها الجديد بحي أكدال – الرباط العاصمة، ودخولها الثقافي والفكري، الندوة الأولى كانت حول “الدين وأسئلة الفكر الراهن”، شارك فيها كل من المفكر الأردني الدكتور فهمي جدعان، والمفكر الموريتاني الدكتور السيّد عبد الله ولد أباه، والأكاديمي المتخصص في علم الاجتماع السياسي المغربي حسن قرنفل، والثانية كانت حول “الدين والإشكالات الفلسفية الراهنة”، شارك فيها كل من الدكتور التونسي محمد محجوب، والدكتور المغربي محمد نور الدين أفاية.
وانطلاقاً من “شعلة الفلسفة” التي اتخذها الباحث إدريس كثير عنواناُ لمداخلته، تساءل عن هذه الشعلة: متى انطلقت، وكيف استمرت؟ ولماذا خبت؟ وما دورها في الفكر العربي المعاصر اليوم؟ وقدم سفراُ ممتعا في الفلسفة، بدءاً من الفلسفة اليونانية مع الفيتاغوريين (نسبة إلى فيتاغوراس)، إلى الفلسفة الأندلسية، ثم العربية والمغربية تحديداً.
وأوضح كثير أن “شعلة الفلسفة انقدحت في اليونان وحاول فيتاغوراس بعد أن لخصها في الأعداد أن يكتمها في الموازين الموسيقية، وأن يؤسس لها جماعة من اليقظانيين لرعايتها وحراستها”، متسائلاً هل كان أفلاطون واحداً منهم، وهل كان أرسطو آخرهم في اليونان؟
وأثناء تقديمه للكثير من التفاصيل حول أفلاطون، وأرسطو، وتشربهما لفكر اليقظانيين، اختار أن يتحدث عن امتدادات الفكر الفلسفي من خلال عمل روائي لجاك أطالي يحمل عنوان “أخوية اليقظانيين”(La confrérie des éveillés)، يستحضر فيه الكاتب مجموعة من الفلاسفة كابن رشد، وابن طفيل، وغيرهما من الفلاسفة، وبعض الشخصيات المتخيلة، ويطرح الكثير من الأسئلة الفلسفية العميقة التي يحاول الإجابة عنها، معتبراً أن الرواية تتناول أيضاً “إكسير الخلود”.
وأشار كثير إلى أنه بعد اليونان انتقلت شعلة الفلسفة إلى الأندلس عن طريق الترجمة مع ابن رشد بالنسبة للعربية، ومع ابن ميمون بالنسبة للعبرية، معترفاً بفضل ابن طفيل وكتابه “حي بن يقظان” والترجمات التي تمت حول هذا الكتاب من السهروردي وابن النفيس، على الفكر الفلسفي العربي، مؤكداً أن الفيلسوف والسياسي ابن طفيل هو الذي ورط ابن رشد للسعي وراء الكتاب المفقود “رسالة في الخلود المطلق”.
وبعد استعراضه لكل هذه التصورات وعلاقتها بالمقدس والكلام الإلهي، تساءل كثير قائلاً: أين نحن الآن من هذه الشعلة؟ ولماذا خبا تأثير هذه الشعلة الفلسفية التي عرفت نوعاً من التوهج والألق في فاس والرباط في وقت من الأوقات بالمغرب؟
وكشف أنه بعد ابن رشد، غفونا إلى أن جاء المفكر المغربي الراحل محمد عزيز الحبابي، ولكنه لم يهتم بابن رشد، كما فعل المفكر الراحل محمد عابد الجابري، الذي خلق المدرسة التأويلية بالرباط، في حين خلق جمال الدين العلوي بفاس مركزاً للدراسات الرشدية، كان من ضمن باحثيه محمد المصباحي. لكن أين نحن من كل هذا؟
وخلص كثير في مداخلته إلى أننا لم نعد نهتم بالحقيقة ولا بالخلود بالمعنى الأرسطي، خاصة حينما تشتت مع العلوم الحقة والدقيقة، معتبراً أنه يمكن أن نعيد لشعلة الفلسفة ألقها وتوجهها، ويكون لها أثرها في الوقت الحالي، إذا ما استوعبنا كتاب النفس.
ومن جهته اختار الباحث المغربي عادل حدجامي أن يبدأ مداخلته التي كانت عبارة عن تساؤلات منهجية وفكرية دقيقة، وحملت عنوان “الفلسفة العربية المعاصرة إشكالاً واستشكالات”، بالتنويه بعمل مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والإشادة بانفتاحها على كل الأفكار والتصورات المختلفة، قائلاً: “جميل جدا أن تجد في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود نصاً لنيتشه إلى جانب نصوص أخرى مختلفة، وهذا كنز حقيقي أمام اليباب الذي نعيشه”. وأضاف أنه ولو لم يكن عضواً في هذه المؤسسة الحديثة، إلا أنه يشعر بانتماء أخلاقي لها.
وطرح حدجامي، انطلاقاً من موضوع الندوة “أي دور للفكر الفلسفي في الواقع العربي المعاصر؟”، كيفيات للإجابة عن هذا السؤال الإشكالي، منها كيفية فلسفية تجعل من السؤال فرصة لطرح السؤال أو توليد أسئلة أخرى، لأن المهم في مجال الفلسفة هو طرح السؤال، ثم تساءل: هل لا بد لكل شيء من دور؟ وهل يمكن أن يكون كل شيء نافعاً، خاصة أن الفكر كما تصوره القدماء قد يكون ممارسة نبيلة يمارسها الإنسان لذاتها؟
وأوضح حدجامي أن الفلسفة حينما يتم ربطها بالعالم العربي تطرح إشكالات عديدة، لأنها برأيه فلسفات، فهناك فلسفة تمارس كترجمة، وتأليف تقني من خلال الاشتغال على المتون القديمة ولا تستحضر أسئلة الواقع القريبة، ثم “هناك فلسفة تضع يدها في عجين التاريخ والمجتمع وتتساءل عن الحقوق وغيرها من المواضيع”، مشيراً إلى أن بين هذين التوجهين خصاماً.
وبعيداً عن طروحات كل من المفكرين محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، حاول حدجامي التقرب من سؤال التفكير الفلسفي العربي المعاصر من خلال حوار دار بينه وبين صديق له يكشف عن الكثير من المزالق المتعلقة بالحداثة وما بعد الحداثة والعقلانية، والتي تشي بتفكير معادي للفكر في الأصل، تفكير لا فلسفة فيه أصلاً، إنه أقرب إلى الرأي العام من الفلسفة.
وأشار حدجامي إلى أن الفكر النقدي في العالم العربي لم يبدأ إلا في ستينيات القرن الماضي، لأن التفكيك والنقد أو الفلسفة التي تأخذ على عاتقها تبيان الفوارق والمفارقات، كانت منبوذة، وكان السائد هو الفكر العضوي والعملي مع الماركسية. ونبه إلى الكثير من الأخطاء السائدة، أولها يتعلق بالحداثة وما بعد الحداثة التي لم نتشرب أيا منهما بعد في العالم العربي، والأنا والآخر، والعقلانية، وغيرها من الأمور التي تتسلل إلى ثقافتنا شئنا أم أبينا.
وخلص حدجامي في مداخلته التي أثارت أسئلتها أسئلة الحضور من الطلبة والباحثين، أننا “نحن في العالم العربي ملزمون بدراسة كل شيء، لأننا تلقينا الحداثة وما بعد الحداثة في وقت واحد”، منبهاً إلى خطورة انتقائية السلطة العليا التي يرفضها الفكر الحر، معتبراُ أن ما وصل إليه العروي والجابري الذي لم يكن مشروعه إيديولوجياً كما يعتقد الكثيرون بل مشروع نقدي يحضر فيه فوكو، لم يكن ليتحقق لولا نهلهم من الفكر النقدي الغربي. ولهذا السبب دعا إلى إيلاء الأهمية للحرية الفكرية، لأنه من دونها لا يمكن لأية نهضة أن تتحقق.
وتجدر الإشارة إلى أن إدريس كثير أستاذ الفلسفة وأمين عام الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة (فرع فاس)، وعضو الهيئة الاستشارية لمجلة “الاستهلال” بفاس، وعضو اتحاد كتاب المغرب، ولد عام 1954 بوجدة. ينشر دراساته بمجلات وطنية وعربية، مثل: فكر ونقد، مدارات فلسفية، اختلاف، علامات، الصورة، كتابات معاصرة، علامات في النقد، نوافذ الثقافة البحرينية، نزوى، دراسات عربية، الفكر العربي .ويشتغل على واجهتين: الأولى تأليفية تنطلق من مساءلة التراث الفلسفي في كل لغاته، لأجل استنهاض الإبداع الفلسفي العربي والمغربي وفتح أبوابه، والثانية تتعلق بالترجمة كمثاقفة للتعريف بثقافة الآخر والدخول معه في حوار وجدال. كما له اهتمام بالخطاب السوسيولوجي والنقد السينمائي. صدرت له مجموعة من المؤلفات بالاشتراك مع الكاتب المغربي عز الدين الخطابي، منها: “أسئلة الفلسفة المغربية”عام 2000، وترجمة كتاب “الحريم وأبناء العم: تاريخ النساء في مجتمعات المتوسط” للمؤلف جرمين تيليون،عام 2000 ، وترجمة كتاب “درس الفلسفة” للمؤلفين جاك ديريدا، وسارة كوفمان، وفرانسوا شاتلي، عام 1998، وترجمة كتاب “مدخل إلى فلسفة جاك ديريدا” للمؤلفة سارة كوفمان وروجي لابورت،عام 1991.
أما عادل حدجامي، فهو باحث جامعي، من مواليد الرباط 1976، درس الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط، وتخرَّج منها عام 1999، وانصرف إلى الدراسة في الجامعة ذاتها، ليتحصَّل على دبلوم الدراسات العليا المعمَّقة عام 2001،ومن ثم تحصل على دبلوم المدرسة العليا للأساتذة في مكناس، وفى عام 2010 حصل على درجة الدكتوراه من (كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس)، ويعمل حالياً في الكلية ذاتها كأستاذ محاضر، وهو عضو المجمع الدولي للمترجمين.
يهتم الباحث عادل حدجامي بفلسفة الأخلاق، سواء الأخلاقية منها ) الإيتيقا)، أو الجمالية (الإستطيقا)، حصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب (فرع المؤلف الشاب) في نسختها السابعة (2012-2013) التي ترعاها هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة، عن كتابه “جيل دولوز عن الوجود والاختلاف”، وهو أطروحة جامعية تحصَّل من خلالها على شهادة الدكتوراه.
له كتابان قيد الطبع، الأول بعنوان “سبينوزا فلسفة عملية”، وهو ترجمة لنص لجيل دولوز سيصدر في عام 2015 عن “دار توبقال للنشر”، وكتاب “اعترافات: تطبيبات للآخرين” سيصدر عن الدار نفسها في عام 2016.