تفادى المجلس الوطني التأسيسي، بمشقةٍ مريرةٍ، تضمين الدستور التونسي فصلاً يجرّم التطبيع مع إسرائيل، مكتفيا بالتنصيص في التوطئة على “الانتصار إلى المظلومين في كل مكان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإلى حركات التحرر العادلة، وفي مقدمتها حركة التحرر الفلسطيني، ومناهضة كل أشكال الاحتلال والعنصرية”، وهو ما اعتبره بعضهم غير كاف، ولا يرتقي إلى وهج الثورة، وما راكمه الوجدان التونسي العام منذ عقود طويلة، بدأت من ثلاثينيات القرن الماضي، مع التحاق أول أفواج المتطوعين التوانسة بالجهاد في فلسطين.
سواء كان تفادي تجريم التطبيع تم تحت ضغوطٍ، اعتقدت الترويكا التي كانت حاكمة أنها لا طاقة لها على ردها، أو كان نتيجة لتوافقات راعت حساسية نخب فرنكفونية غير متحمسة على التنصيص صراحةً على ذلك، وقدرتها الفائقة على إلحاق الأذى بالمسار العام للانتقال الديمقراطي، بتأليب القوى الدولية المؤثرة، فإن تجريم التطبيع مع إسرائيل لم يرد في الدستور التونسي الوليد. ترك هذا الأمر حسرةً وغضباً لدى فعالياتٍ سياسية عديدة، أحزاب وشخصيات، واستعملوا ذلك حجةً في إضعاف خصومهم، وإرباكهم، في حين حاول هؤلاء الدفاع عن موقفهم، اعتباراً من أن مقاومة التطبيع إرادة شعبية أعلى حتى من الدستور، وهي كافية للجم كل من تسوّل له نفسه تجاوز تلك الخطوط الحمر، المرسومة في الضمير الجمعي للتونسيين. لا ينسى الناس، وحتى الأجيال الحالية، أن تونس تحولت، في أحيانٍ عديدةٍ، إلى دولة مواجهة، فعلى ترابها تم استهداف القيادات الفلسطينية في عام 1985، وعليها أيضا تمت تصفية قيادات فلسطينية، في مقدمتهم الشهيد أبو جهاد، في ملابساتٍ لم تكشف بعد، وتشير إلى تواطؤ من بعض أجهزة النظام السابق.
غادرت الترويكا الحكم، بعد أن اطمأنت إلى الدستور، وحل محلها وزراء تكنوقراط، أو هكذا يقدمون أنفسهم.
وبقطع النظر إن كانت الثورة تحتاج تكنوقراطاً، أو حكاماً ثوريين، فإن حالة الإنهاك التي وصلت إليها النخبة السياسية، نتيجة تراجع الموجة الثورية في الوطن العربي، إلى جانب جَزر الحالة الثورية التونسية، والحصار الأجنبي غير المعلن (عربي وغربي) المضروب على الثورة، أوجدت حالة من الانكفاء على الشأن الوطني المحض.
كانت السيدة وزيرة السياحة، آمال كربول، والتي أقامت في ألمانيا، من الوزراء التكنوقراط. تسلمت حقيبة السياحة، وبدأت مهامها بخطوة متعثرةٍ، ستربك مسارها حتى الأمتار الأخيرة. أثار تعيينها عاصفة انتقادات، إذ تبين أنها زارت إسرائيل، غير أنها تبرأت من الزيارة، وقدمت أعذاراً، تتعلق بأنها كانت آنذاك في مهمة لفائدة منظماتٍ دولية، وأنها غادرت المطار من دون إنجازها المهمة. هدأت العاصفة، وطُوِّقت، ولم يتمسك الرأي العام بالمحاسبة، إذ ما أن ينشغل بقضية، حتى يتم، في الوقت المناسب، إلهاؤه بقضية أخرى، وتلك تقنية ماهرة، يحذقها صناع الرأي العام في تونس بعد الثورة.
في خضم هذا الجدل، شهدت تونس منذ ما يزيد على شهر، حادثة اعتبرها بعضهم عابرة. ولكن، يتأكد، الآن، أنها كانت جسّ نبض تُملى على إثره، مباشرة، وصفة الطاعة. فخلال توقف سفينةٍ في مرفأ حلق الوادي في تونس يوم 9 مارس/ آذار 2014 لم يسمح لنحو 14 من الركاب “الإسرائيليين” بالنزول من الباخرة، بموجب قرارٍ، يبدو أن الأوساط الحكومية اتخذته مرتبكة، وفي اللحظات الأخيرة آنذاك.
ورداً على ما اعتبرتها “ممارسة تمييزية”، أعلنت شركة نورفيجان كروز لاين إلغاء كل توقفاتها المتبقية في تونس، مهددة بأنها لن تعود مجدداً إلى تونس. كانت تلك الشركة تريد، كما ورد في البيان الذي أصدرته أن تبعث “رسالة قوية إلى تونس، وإلى كل الموانئ عبر العالم، أنها لن تتسامح مع مثل هذه الممارسات التمييزية ضد زبائنها”.
أثارت هذه الحادثة امتعاض أوساطٍ متنفذةٍ على الصعيدين، المحلي التونسي والدولي في هذا القطاع بالذات، دفعت بعض المسؤولين، ومنهم وزيرة السياحة المذكورة، إلى المسارعة في الاعتذار تكفيراً عما توهموا أنه ذنب. وتتاح للسيدة وزيرة السياحة، وبعض المسؤولين ممن لهم علاقة بإدارة الحدود والسياحة، فرصة حاليا للبرهنة على أن تلك الأخطاء لن تتكرر، وأن الأمر خيار لا تفرضه طبيعة الظرف الراهن، المتسم بتراجع السياحة، والاستعداد الجيد لإنجاح موسمٍ سياحيٍّ جديد بدا على الأبواب، بل هو توجه استراتيجي، يبدأ بترميم تونس وجهةً سياحيةً يتم التسويق إليها، بإبداء حسن الضيافة تجاه الإسرائيليين بالذات. يسترجع الذكاء التسويقي للسياحة التونسية حالياً مفردات وصورا، اشتغل عليها النظام السابق، في تقديم صورة تونس، باعتبارها بلداً منفتحاً مكتنزاً غرائبية جمة، وهي في أحيان كثيرة مفتعلة، ومبالغ فيها. للأسف، لم يتم، بعد الثورة، إعادة ترتيب المخيال السياحي، وتثمين مفردات الثورة ورمزياتها، وهي فرصة تهدر عمداً.
سيسأل المجلس التأسيسي وزيرة السياحة في الأيام المقبلة، ومعها أحد المسؤولين الأمنيين الكبار، والذي قد يكون أذن كتابياً بدخول نحو ثمانين سائحاً إسرائيلياً، ولسنا ندري ما سينجم عن تلك الجلسة، لكن الثابت أن النخبة السياسية انشغلت بتعيير بعضها، على خلفية التخاذل عن تجريم التطبيع مع إسرائيل في الدستور. وينسى هؤلاء أن تونس كانت مناهضة للتطبيع في وجدانها الشعبي، حتى في ظل دستور رث ونظام قمعي. لن يكون عدم التنصيص على تجريم التطبيع صكا للمطبعين، وهو فخ قد يتذرع به هؤلاء. إن إيجاد حالة ثقافية شعبية مناهضة لأشكال التطبيع كافة أمر ضروري وحيوي. ولكن، على خلاف النخب السياسية، أبدى المجتمع المدني، ممثلاً في كبريات المنظمات الوطنية، على غرار الرابطة التونسية لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة الوطنية للمحامين، إدانته الشديدة لمساعي التطبيع السياحي. تتسع على الثورة التونسية قائمة الممنوعات، وفي كل مرة، يتم فيها التجرؤ، تنزل على التونسيين صنوف العقوبات، في ظل ترحيب من بعض الداخل، لإيجاد حالةٍ شعبيةٍ معاديةٍ للثورة ذاتها.
“العربي الجديد”
اقرأ أيضا
المفتي العام للقدس يشيد بالدعم الذي يقدمه المغرب بقيادة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني
أشاد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى المبارك، الشيخ محمد حسين، اليوم الأحد …
المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين
أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …
مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة
شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.