مثير للجدل أن يتحدث رئيس الحكومة الانتقالية في ليبيا عبد الله الثني عن حسم قضائي لخلافاته مع رئيس الوزراء المعين أحمد معيتيق. فالقضاء الذي لم يفلح في جلب رموز النظام السابق إلى محاكمات عادلة أو مجرد فك أسر بعضهم من طرف سلطة الثوار يصعب عليه إنصاف استقلاليته المفقودة٬ فبالأحرى فرض هيبته في بلد تتنازعه الصراعات العسكرية والسياسية من قمة الرأس إلى أخمص القدمين.
في حال استمرار حرب الحكومات التي تعكس ذروة التخبط والاضطراب٬ تصبح تجربة «الحكومة المقالة» التي أبدعتها حركة «حماس» قابلة للتمثل. فهي وإن كانت حالة خاصة ارتبطت بمعطيات الواقع الفلسطيني٬ فتحت العيون على تجارب الصراعات الداخلية التي يحتمي فيها كل طرف بما يتصوره سلطة ما. غير أن الخلافات في ليبيا ليست قائمة حول السلطة٬ لأن ما من جهة تتوافر عليها. والتنظيمات المسلحة وحدها تمارس سياسة ليّ الأعناق التي لم يسلم منها المؤتمر الوطني والحكومات المتعاقبة.
في السابق كانت فصائل المعارضة التي واجهت نظام القذافي موزعة بين الشتات في أي مكان يحتمل أن يكون ملاذاً آمناً٬ ثم أصبح المسؤولون الليبيون الجدد أكثر انتشاراً خارج بلادهم. ومن لم يسقطه المؤتمر الوطني٬ طالبت برأسه فصائل مسلحة٬ عبر زوار يظهرون في وضح النهار ولا ينتظرون حلول الفجر. ولأن الثورة تأكل أبناءها٬ فإن وجبات الانتقام والثأر أصبحت مفضلة في غياب مشروع مجتمعي ينقذ البلد من مخاطر البلقنة والتجزئة والضياع.
لا الحكومة الانتقالية أو المعينة في وارد أن تفرض سلطة القانون٬ وهي التي انتهكته على طريقة الارتهان إلى المؤتمر الوطني الذي فقد شرعيته٬ ولا الجيش الذي تعوزه قيادة موحدة وانضباط وظيفي في وسعه أن يعرج بالبلاد إلى حال طوارئ مؤقتة٬ إلى حين استتباب الأمن وإجراء الانتخابات٬ ولا التنظيمات المسلحة ذات الولاءات المتعددة قادرة على تعويض الفراغ الهائل. لكن الشارع وحده إذ ينتفض عبر تظاهرات سلمية٬ يمكن أن يحقق الاختراق٬ كونه مصدر شرعية ديموقراطية.
لكن الأخطر في تحريك الشارع أن يكرس مظاهر انقسام. ودلت وقائع أن حشد التظاهرات خارج الالتزام بالحراك السلمي٬ يهدد وحدة المجتمعات. ولا يبدو أن الليبيين المنقسمين إلى تيارات وقبائل ومناطق في مأمن من مخاطر التقسيم. ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن القذافي خرج يوماً في خطاب تخويف ينذر المتظاهرين بأوخم العقوبات. ولم يكن السلاح وقتها يغزو البلاد.
هل يكون المسؤولون الذين غادروا ليبيا بعد نجاح الثورة محقين في البحث عن ملاذات آمنة خارج سلطة السلاح الذي استشرى في كل ركن؟ أم أن مغادرتهم تلك شجعت آخرين على بسط نفوذهم بقوة السلاح أو العزل أو التصفية؟ في أي حال فإن التجربة الليبية تمثل استثناء من الثورة إلى الدولة. وهي في طريقها لإلغاء الدولة لفائدة القبيلة أو التنظيم المسلح أو الرعب الذي يسكن العقول.
في فترة عودة الجنرالات إلى الواجهة من مصر إلى تايلاند٬ يجدر الانتباه إلى تجربة فريدة قادها عسكري سوداني أطاح بنظام الرئيس جعفر النميري ثم انسحب إلى الظل. إنه الجنرال محمد سوار الذهب الذي سجل اسمه بمداد لا يمحى. فهو لم ينزع قبعته العسكرية ليخوض انتخاباً كما فعل المشير عبد الفتاح السيسي أو الجنرال الموريتاني محمد ولد العزيز٬ بل سلم السلطة إلى مدنيين سرعان ما انقلبوا على المنهجية الديموقراطية. لكن تجربته تبقى لافتة. وفي حال اقتبس اللواء المتقاعد خليفة حفتر أو غيره من معالمها ما يجعل الجيوش تعود إلى ثكناتها٬ ستربح البلاد كما العباد. وبالقدر الذي تغري فيه تطورات الأوضاع في الجار الشرقي بحذو التجربة٬ بالقدر الذي تتغير المعطيات على أرض الواقع٬ أبرزها أن المؤسسة العسكرية المصرية ظلت متماسكة وأن حكم «الإخوان المسلمين» ارتكب ما يكفي من الأخطاء٬ بينما الليبيون لا يحكمهم أحد حتى الآن عدا ما يتعلق بفرقعات السلاح.
لا يتعين الالتفات كثيراً إلى ما يحدث من خلافات على سلطة لا وجود لها٬ فثمة تحديات أكبر تكمن في كيفية جلب الاستقرار وإقرار المصالحة. وفي محطات التاريخ وقائع يمكن الاستدلال بها، من قبيل العزل الإرادي،إذ يفشل الفرقاء في التوصل إلى صيغة وفاقية تجنب البلاد مخاطر الاقتراب إلى حاجز الصومال أو سورية في أقل تقدير. وهناك دائماً خطوط حمراء يصبح الاقتراب إليها مدمراً، فالأرواح لا تكون في بعض الأعراف أكثر أهمية من منابع النفط. ولا حاجة لمعاودة احتساب أعداد الضحايا العرب الذين قتلوا بسلاح عربي، فيما النفط محكوم عليه أن يتدفق نحو الأسواق إلى الأبد.
“الحياة” اللندنية