قبل التنافس على السلطة، تواجه ليبيا مهمات مصيرية، متعلقة بتحقيق الوحدة الوطنية الشاملة للقوى السياسية والنواحي والقبائل، وبناء الجيش الوطني، كوسيلة وحيدة لتجاوز مسألة الميليشيات، وحتى الكتائب الثورية من بينها. هذه كلها مهمات سابقة على شكل نظام الحكم، لأنه لا دولة بدون مؤسسات شرعية رسمية غير إقصائية. ولا دولة مركزية، أو فيدرالية، من دون جيش مركزي. والديمقراطية تحتاج إلى المؤسسات، أكثر من غيرها، لأنها لا تملك الاستعاضة عنها، لا بالقمع، ولا بعبادة الشخصية.
كان القذافي أقرب القادة العرب لنموذج النرجسية الاستحواذية، ولنموذج المهرج السادي والعنيف. كان البلد مزرعته الخاصة، وركن تسليته، ومتنفّسًا لنوباتِ غضبِه، ومختبراً لتجاربِه، ومرتعاً لانحرافاتِه، ابتداءً من جنون العظمة وحتى التضاؤل المرضي والتظاهر بالتواضع على نمط البداوة المستحدثة، مرورا بكثير من المركبات النفسية التي تتخذ لها تعبيراتٍ غريبةً عجيبة. نجد بعضا من هذه عند قادة آخرين، بما في ذلك في دول ديمقراطية، لكنها قلما اجتمعت في شخص واحد؛ والأهم أنها، في حالته، تجمعت في شخص يستحوذ على سلطة مطلقة، تمكّنه من ممارستها في السلطة ذاتها، وكتجارب على البشر.
وقد عانت شعوب أخرى من نزواته الزعامية في بلادها، وفي تخريب أحزابها وحركاتها التحررية بالمال والشعارات، لكنه شكّل لغالبية العرب مناسبة للتندر والتسلية. وحده الشعب الليبي لم ير ما يضحك في شخصية زعيمه الذي تركت نزواته ندوباً على أجساد أبنائه، وفي نفوسهم، هذا إضافة إلى ما شهدوه من نشوء شخصيّاتٍ تقلّده بالكلام غير المترابط والتدجيل، والشعارات التي اعتبرت في عرف اللجان الشعبية علامة على الثورية.
وتمثلت الكارثة الكبرى في أن القذافي منع، بممارساته القمعية وسياساته الغرائبية، نشوء مجتمع منظّم، ودولة مؤسسات، وجهاز تعليم حقيقي، وحتى جيش حقيقي. فقد استعاض عنه بكتائب هي جيوش خاصة. وأثبت أن أسوأ أنواع الاستبداد هو ذلك المختبئ وراء الفوضى، والمكتفي بإدراتها. انتهى القذافي نهاية مأساوية، لا يفترض أن يقبلها أحد. ولم يخلّف وراءه سوى الخراب والفوضى، في غياب مديرها.
لم يحن أحد لنظام القذافي، ليس فقط بسبب ما كان، بل، أيضاً، لأنه يتحمل المسؤولية عما تعيشه ليبيا حاليا.
احتاجت الثورة الليبية التي استمدت شجاعتها من ثورات جارتيها، في مصر وتونس، إلى دعم خارجي لكي تنتصر، لأنها تحولت إلى ثورةٍ مسلحةٍ في مواجهة كتائب نظامية. وقد احتاجت ثورات غير ثورة الشعب الليبي إلى دعم، ولم يقدم لها، ولم تحظ حتى بحماية للمدنيين.
وتجلت قلة التنظيم والتنافس بين القوى الثورية، خلال الثورة ذاتها، وبانت كذلك قلة الخبرة السياسية في بلدٍ لم يتح الاستبداد فيه أي هامش لعمل سياسي، أو نقابي. ولكن، كان على الثورة أن تبني البلد، وأن تنتقل بسرعة من حالة الصراع المسلح إلى الوحدة الوطنية اللازمة للبناء. وبعد بوادر إيجابية تعرفنا خلالها على مواهب كثيرة، طمسها النظام السابق، تغلب الشقاق على البناء.
فكما في مصر وتونس، استعجل الثوار الانتخابات، قبل أن يتفقوا على بنية النظام، وقبل أن يستكمل حوار على شروط وحدة ليبيا، دولة وشعباً في غياب الاستبداد. وكان هذا يتطلّب درجة من التسامح، لاستيعاب قطاعات اجتماعيةٍ، ارتبطت قبليا أو جهويا بنظام القذافي، وأخرى ارتبطت به مصلحياً. كما تتطلب المهمة، برأيي، درجة من التواضع في العلاقة مع الماضي نفسه. وبدلاً عن محاسبة من ارتكبوا جرائم في عهد نظام القذافي، في نوع من العدالة الانتقالية، جرت عمليات انتقام فوضوية، لا توحي بقيام دولة، ومن ناحية أخرى، مورست عملية إقصاء رسمية ضد قطاعات اجتماعية شاملة، لا يجوز أن تُقصى.
ولم يُمهَل الشعب الليبي ليستجمع أنفاسه، قبل أن تبدأ الأحزاب، والنزعات الإقليمية المتخفية، كميلشيات وأحزاب بالتصارع (وليس التنافس)، لا على نيل ثقة الشعب، بل لضمان حصص فيه، أي على الإمعان في تقسيمه.
تمكّن الليبيون من إجراء انتخاباتٍ نظيفةٍ، بهرت العالم في سلميّتها وحسن تنظيمها. ولكن عمل البرلمان ذاته أثبت أن التقسيمات الحزبية ليست حزبية، وأن الولاءات تتغيّر تبعاً للوظائف والمصالح، وبالتالي، فلا الأغلبية الانتخابية تتحوّل إلى أغلبية برلمانية فعلاً، ولا الأقلية أقلية. كما ثبت أنه من دون حوار وطني، ووحدة مؤسسية، لا تنشأ الثقة اللازمة لتسليم سلاح المقاتلين، وأن هؤلاء يتحولون إلى ميليشياتٍ لا تخضع للبرلمان، ولا للانتخابات مهما حسن تنظيمها. فثمة شروط يجب توفرها، لكي تكون الانتخابات الحرة والنزيهة ذات معنى أيضاً، ولكي يكون البرلمان صاحب سيادة فعلية، بعد أن حقق إنجاز السيادة نظرياً وقانونياً.
وأصر من أصر أن يحكم ليبيا في هذه المرحلة بالأغلبية. وأصر من أصر على قانون عزل سياسي بعيد المدى، وكان بالإمكان الاكتفاء بعزل سياسي لفئة أصغر من الناس، وبمحاسبة من ارتكب الجرائم قضائياً، في عملية عدالة انتقالية؛ وشرط التمكن من تطبيقها هو الوحدة الوطنية. وتتألف الوحدة الوطنية من وحدة القوى الثورية، أَولا، واستيعاب القطاعات الاجتماعية التي كانت مرتبطة بالنظام ثانياً.
ثمة صراع في ليبيا، لم يبذل جهد كاف لحله، في تسوياتٍ مؤسسيةٍ بين الثورة وقطاعات اجتماعية جرى إقصاؤها؛ وثمة تمايز جهوي يتخذ أشكالاً حزبية، وثمة نخبٌ سياسيةٌ تحول هذا التمايز إلى صراع. يضاف إلى ذلك صراع مبكر بين قوى إسلامية وأخرى غير إسلامية، على من يدير البلاد، بدلاً عن الاتفاق، في حوار وطني، حول سؤال: “كيف تدار البلاد؟”. فهذه القوى ناضلت سياسياً، وبالسلاح، ضد نظام القذافي، ويفترض أن تتفق على نظام الحكم قبل أن تبدأ بالتنافس لحسم سؤال من منها سوف يحكم البلاد. وخلال الحوار على طبيعة نظام الحكم، لا بد من وجود حكم مؤقتٍ، تمارسه حكومات وحدة وطنية، لا تحكم بالأكثرية، بل تؤسس بمشاركة الجميع للثقة المتبادلة.
وأخيراً، نشأ التناقض بين هذه القوى جميعاً من جهة، وحركات مثل أنصار الشريعة اتخذت لها مقراً في الفوضى، وفي مناطق التخوم الحدودية. ونشأت ظاهرة القوى المتطرفة المسلحة التي يصعب تقدير حجم الاختراقات في صفوفها، في مراحل انحسار سلطة الدولة في التخوم. وهي ظاهرة شبه عامة، في مثل هذه المناطق، تخشاها تونس واليمن وسورية ومصر والجزائر، ليس كأنظمة فقط، بل كمجتمعات. فهي ليست مناهضة للديمقراطية فحسب، بل معادية للمدنيّة بشكل عام.
وللتذكير نقول إن هذا النوع من الحركات لم ينشأ في ظل أنظمة ديمقراطية، بل في ظل أنظمة استبدادية، علمانية أو غير علمانية.
يكفي أي واحد من التناقضات الفاعلة في الحالة الليبية أن يضعضع استقرار دول قوية وعريقة، فما بالك بدولةٍ حطمها النظام السابق، ولم تفلح بإنشاء مؤسساتها بعد؟
لا يحتاج المرء إلى خيال واسع ليتصور إلى أين تسير ليبيا، إذا استمر هذا الوضع من دون رفع النخب السياسية والثوار رؤوسهم من الانكباب على التفاصيل، لرؤية الصورة الشاملة، ومعالجة بعض بقايا ثقافة النرجسية والمباهاة القذافية التي انتشرت في هواء ليبيا السياسي، ولا يمكن إلا أن تكون قد تركت بعض الأثر في لا-وعيهم؛ والارتقاء إلى مستوى الاستعداد لتقديم التنازلات، بهدف تحقيق حوار وطني شامل على الدستور. إن إجراء الانتخابات في ظروف الشقاق، ومن دون مؤسساتٍ راسخةٍ تجري الخلافات تحت سقفها، هي وصفة للفوضى والاحتراب الأهلي.
تتحمل النخب السياسية الليبية، والقوى المسلحة في ليبيا، المسؤولية الرئيسية عن النجاح أو الفشل في تغيير المسار عن وجهته الكارثية الحالية. ولكن، ثمة دول تتصارع في ليبيا عبر دعم هذا الطرف ضد ذاك، بدل أن تتعاون في مساعدة ليبيا على النهوض. يجب أن تدرك هذه الدول، قبل فوات الأوان، أنها سوف تودي بمنجزات الثورة كلها، إذا لم تترفع عن الخلافات في ليبيا نفسها على الأقل، وتساعد الليبيين على خلق جو ملائمٍ، لاتخاذ قرارات صحيحة، وهي قادرة على ذلك. ولا يخلو محيط ليبيا القريب، ولا يخلو العالم العربي من قوى وشخصيات على استعداد للمساهمة في التوصل إلى مناخ وآليات الحوار الوطني الشامل، مثلما فعل الصديق، الشيخ راشد الغنوشي، الذي لا بد من تعزيز مبادرته بقوى إضافية. ولا يجوز الترفع على طلب المساعدة السلمية من قبل قوى استغاث شعبها في زمن الثورة، وأغيث عسكرياً. ليست هذه مسألة رفاهية أبدا، إنها مسألة وجود، إنها مسألة تغلّب غريزة البقاء على عوامل الهدم والانحلال.
“العربي الجديد”
اقرأ أيضا
المفتي العام للقدس يشيد بالدعم الذي يقدمه المغرب بقيادة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني
أشاد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى المبارك، الشيخ محمد حسين، اليوم الأحد …
المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين
أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …
مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة
شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.