إزالة العنصر: الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي

هل تكتب انتخابات السنغال شهادة وفاة الفرنك الأفريقي، ومعه خروج غرب أفريقيا من عباءة فرنسا؟!

بقلم: هيثم شلبي

على الرغم من عدم الإعلان الرسمي عن النتائج، إلا أن الانتخابات التشريعية في السنغال تتجه لتنصيب الرئيس الشاب باسيرو ديوماي فاي (44 عاما) على رأس هذا البلد الهام في غرب أفريقيا، وانتهاء حقبة من هيمنة النفوذ الفرنسي على هذا البلد منذ الاستقلال. فاي، مرشح المعارضة، الذي كان مسجونا قبل عشرة أيام من الانتخابات، وحل بديلا عن زعيم المعارضة عثمان سونكو، جعل على رأس برنامجه الانتخابي الخروج من العملة الاستعمارية “فرنك غرب أفريقيا”، سبيلا للتخلص من الهيمنة الفرنسية التي تحكمت ببلاده على مدى عقود طويلة. لكن، وبعيدا عن قياس أثر هذا الانتخاب المدوّي محليا، ما الذي يعنيه سعي الرئيس الشاب لاعتماد عملة سنغالية منفصلة، أو الدعوة إلى عملة إقليمية لغرب أفريقيا بديلا للفرنك الأفريقي، عنوان الهيمنة الفرنسية؟
بداية، لا بد من توضيح حقيقة ناصعة، تقول باستحالة التخلص من الهيمنة الفرنسية على مستعمراتها السابقة، دون التخلص من العملة التي صنعتها لربط اقتصادات هذه المستعمرات بفرنسا، عبر السيطرة على احتياطاتها من النقد الأجنبي، وربطها باليورو، وحرمانها من التصرف في خيراتها إلا وفقا لما تراه مناسبا لها -أي فرنسا- بالدرجة الأولى. ومع إعلان مالي والنيجر وبوركينافاسو رسميا سعيها للتخلي عن فرنك غرب أفريقيا، ومع الرغبة السنغالية المعلنة، يبقى داخل مظلة الفرنك سيء السمعة أربعة دول فقط هي ساحل العاج، غينيا بيساو، بنين والتوغو، وهي الدول الفقيرة ذات الاقتصاد المحدود اللهم باستثناء ساحل العاج، بدخلها المحلي الخام البالغ حوالي 70 مليار دولار. فبنين لا يتجاوز دخلها المحلي الخام 18 مليار دولار، مقابل 8 مليارات فقط للتوغو، ومليار ونصف لغينيا بيساو!! وهو الأمر الذي يلقي بظلال شك كبيرة على الجدوى الاقتصادية من تبعية هذه الاقتصادات لفرنسا عبر عملتها الاستعمارية.
مشهد لا يختلف كثيرا يتعلق بفرنك وسط أفريقيا الخاص بست دول أفريقية، قامت في ثلاثة منها انقلابات على رؤساء موالين تقليديا لفرنسا (تشاد، الغابون، وأفريقيا الوسطى)، ولا تزال فرنسا مهيمنة على الدول الثلاث المتبقية بواسطة رؤساء، هم الأطول حكما في أفريقيا: رئيس غينيا الاستوائية (44 عاما في الحكم)، رئيس الكاميرون (41 عاما)، ورئيس جمهورية الكونغو (39 عاما)!!
ومع موجة الانقلابات التي طالت مختلف دول منطقة النفوذ الفرنسي التقليدي، وتبعا لنظرية “أحجار الدومينو”، فإن سيناريو خروج فرنسا من الدول الأفريقية الأكبر في المنطقة يبدو أكثر واقعية بكثير من إمكانية احتفاظ سادة الإليزيه بنفوذهم في مستعمراتهم القديمة، لاسيما مع الرأي العام الطاغي المناهض للوجود الفرنسي في كل شبر من القارة السمراء. وسواء جاء التغيير في ساحل العاج على الطريقة السنغالية، أو توقع تكرار انقلابات النيجر ومالي وغيرهما في الكاميرون وجمهورية الكونغو وغينيا الاستوائية، فإن المحصلة تبقى نفسها، وتتعلق بالإجابة على سؤال “متى”؟ وليس على سؤال “هل” تنسلخ هذه الدول من خريطة النفوذ الفرنسي أم لا؟
إن فرص ومقومات استمرار النفوذ الفرنسي في كامل الغرب الأفريقي تتضاءل كل يوم، لدرجة يمكن اعتبار نهاية الهيمنة الفرنسية بمثابة “حتمية تاريخية”، ويرجع ذلك بالأساس إلى السياسات الاستعمارية الفرنسية البشعة القائمة على الاستعلاء والنهب، دون أي اهتمام بتوفير أبسط شروط التنمية لشعوب هذه الدول. اتهامات لا تأتي من الأفارقة وحدهم، بل من شركاء فرنسا الغربيين (إيطاليا على سبيل المثال) الذين يحملون السياسة الفرنسية المذكورة المسؤولية عن موجات الهجرة القادمة من القارة السمراء باتجاه أوروبا.
وعليه، وحتى لو بدا توقع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك نوعا من المبالغة، عندما اعتبر أن “فرنسا بدون أموال القارة السمراء ستصبح دولة من دول العالم الثالث”!! فإن خبراء الاقتصاد يكادون يجمعون على أن انتهاء الفرنك الأفريقي في غرب ووسط القارة، وسحب هذه الدول لأموال بنوكها المركزية من فرنسا، سيخرج فرنسا من قائمة أكبر عشرة اقتصادات في العالم.
لهذا، يمكن فهم وتفسير “السعار” الذي يصيب مختلف أوساط الحكم في فرنسا، من هذه الحركة الأفريقية الهادفة إلى التحرر والانعتاق من الهيمنة الفرنسية. لكن فرنسا حتى الساعة، لا تزال تكابر وتعتقد بإمكانية حفاظها على نفوذها في المنطقة، عبر استباق الانقلابات المتوقعة على رؤساء الأنظمة “الديمقراطية” الأكثر استبدادا التابعة لها، بتنظيم “انقلابات استباقية” تجلب للحكم قيادات عسكرية شابة تابعة لها، وهو ما يعتقد كثير من المراقبين بأنه ينطبق بدرجات متفاوتة على انقلابات غينيا وتشاد والغابون!! لكن، وسواء كانت هذه انقلابات ذاتية أو مدبرة، فإنها لن تعيق سوى لفترة بسيطة التحاق هذه الدول بتيار الاستقلال الأفريقي الجارف، لا سيما مع وجود إمكانيات حقيقية، وليس عاطفية، للتعاون جنوب- جنوب، كما يبشر بذلك ويدعو له العاهل المغربي الملك محمد السادس، ويسخر خبرات وخيرات بلاده من أجل تجسيده على أرض الواقع. وما حلف الأطلسي الأفريقي، وأنبوب الغاز العابر لغرب أفريقيا، ومبادرة ربط دول الساحل الحبيسة بالمحيط الأطلسي، سوى نماذج واقعية لما يمكن للأفارقة أن يفعلوه دون وصاية غربية أو شرقية!!
نهاية الفرنك الأفريقي هي الرهان الأكبر الذي على الأفارقة كسبه، ويأتي بعده مهمة أسهل بكثير تتمثل في إنهاء وجود القوات الفرنسية المتبقية في بعض بلدان القارة، والمقتصرة في غرب القارة على 1000 جندي في تشاد، و600 في ساحل العاج، و450 في السنغال، و400 في الغابون، وقد أعلنت فرنسا أنها بصدد تقليص هذه الأعداد إلى قرابة النصف، لتقتصر مهامها على التدريب فقط.
الأكيد، أن أعين المراقبين ستتركز في المرحلة المقبلة على متابعة ما يدور في ساحل العاج تحديدا، آخر القلاع الفرنسية وأكبرها في غرب أفريقيا، لمعرفة مآلات النفوذ الفرنسي فيها، حيث أن خروج فرنسا من هذا البلد، بانتخابات أو عبر انقلاب، سيكتب شهادة وفاة الوجود الفرنسي في غرب القارة، واحتفال المنطقة برمتها أخيرا بالاستقلال والتحرر من الاستعمار الفرنسي البغيض الذي جثم على صدور الأفارقة منذ أزيد من قرن ونصف. مع الاعتراف، بأن هذه الاحتفالات ستبقى ناقصة حتى تتحرر درة التاج الفرنسي الأفريقية: الجزائر، من وكلاء فرنسا الذين يحكمونها منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهو الحدث الذي لن يطول انتظاره!!