هيثم شلبي
جرت العادة في النظام الجزائري، الذي يحكمه جنرالات فرنسا، بشكل مستتر، منذ الاستقلال إلى حين الانقلاب على الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وبشكل مباشر بعد ذلك وإلى يومنا هذا، على أن يقوموا بتعيين “واجهة مدنية” لنفي الصبغة العسكرية للنظام. هذا ما صنعوه مع الرئيس بوضياف، والرئيس بوتفليقة، والآن الرئيس تبون. ولوجود أجنحة مختلفة في نظام وظيفي متعدد الولاءات كالنظام الجزائري، من المعتاد أن تطفو على السطح أصداء الخلاف على مرشح معين لمنصب الرئيس، كما حدث في العهدة الثالثة لبوتفليقة، حيث كان الجنرال القوي محمد مدين “توفيق” من أشرس المدافعين عن ضرورة “تجديد” منصب الرئاسة بعد الجلطة التي أصابت بوتفليقة وأقعدته، مرشحا بدلا منه “الواجهة المعارضة” علي بن فليس، وهو ما وقف ضده رئيس الأركان حينها الرجل القوي الآخر الجنرال القايد صالح، وتم منح عهدتين لا واحدة لبوتفليقة، وكانت هذه الحادثة هي المدخل إلى تنحية توفيق، وهيمنة القايد صالح على باقي الأجنحة.
القايد صالح الذي اختار الرئيس الحالي تبون، وبالتالي فرضه على قصر المرادية توفي في ظروف غامضة، وورثه رئيس الأركان الحالي الرجل القوي السعيد شنقريحة، بينما نجح الجنرال توفيق في استرجاع جهاز المخابرات بشقيه الخارجي والداخلي عبر رجليه المخلصين الجنرال جبار مهنا والجنرال جمال كحال، ونحن نشهد على مدى الشهور الماضية صراع الأجنحة الذي غالبا ما يتخذ أشكالا هادئة، تعبر عن نفسها أحيانا بشكل صاخب. وضمن هذا السياق، يبدو الرئيس تبون هو الطرف الأضعف من بين الأجنحة الثلاثة، بعد أن كان جناح الرئاسة أيام الرئيس بوتفليقة وأخيه السعيد، هو بيضة القبان، وعنصر التوازن بين جناحي الجيش والمخابرات. ضعف الرئيس تبون يجعله دائم “التمسح” والتملق للجنرال شنقريحة، ويصر على حضوره في أي مناسبة يحضرها الرئيس، حتى لو كانت حفل توزيع شهادات التفوق في مدرسة ابتدائية! ضعف، لا ينفع في التغطية عليه محاولات تبون الاستقواء بجهاز الأمن الوطني (الشرطة) وجهاز الولاة، إضافة للسلطة التنفيذية الممثلة في الحكومة. ليبقى الصراع الأشد هو ذلك القائم بين الجيش والمخابرات، الذي تحدد إيقاعه فرنسا، وإن كانت كفة الجيش أرجح.
ومع بقاء أقل من سنة على الانتخابات الرئاسية المقبلة، يبدو الفوز بعهدة ثانية هو الهاجس الأوحد، والموجه الأبرز لحركة الرئيس تبون وحكومته. عهدة يدرك الرئيس تبون أن الفوز بها رهين باحتفاظه بثقة الجنرال شنقريحة، واستمرار صلاحيته في الحفاظ على مصالح الجنرالات، مدنيين وعسكريين! فما هي محددات صلاحيته، إضافة طبعا للطاعة العمياء وعدم الاعتراض على أي أمر يأتيه من الجنرالات الأقوياء؟! يمكن تلخيص الإجابة في محدد واحد: الحفاظ على هدوء الشارع الجزائري بأي طريقة كانت، سواء عبر تلبية بعض احتياجاته الأساسية، او إلهائه ببعض “الانتصارات” الدعائية الوهمية، أو إشغاله بمعارك عدائية لا تقل سرابية عن سابقتها! فهل نجح الرئيس تبون في تحقيق المطلوب؟ أم أن فوزه بعهدة ثانية يهدد هذا الهدوء “المصطنع” في الشارع الجزائري؟ بمعنى آخر، هل قدم الرئيس تبون لجنرالات الجيش ما يؤهله لنيل ترشيحهم لعهدة ثانية؟!
لا يحتاج أي مراقب محايد إلى جهد يذكر من أجل الإجابة بالنفي على الأسئلة الماضية. فمئات الطوابير على جميع السلع الأساسية تقريبا، تفضح بشكل صارخ فشله في المهمة الأولى (تلبية الاحتياجات الأساسية). أما الانتصارات الوهمية فقد نجح الرئيس تبون وطاقم مساعديه وباقي جهازه التنفيذي في تحويلها إلى “فضائح” يتندر بها المواطنون الجزائريون، بدءا من فضيحة تنظيم كأس أمم أفريقيا 2025، مرورا بنيل عضوية البريكس، وانتهاء بكل المشاريع الضخمة التي بالغ النظام في تضخيمها من قبيل صناعة السيارات، وغزو البنوك الجزائرية لأفريقيا، وأخيرا “الخرافة” القديمة الجديدة المتمثلة في مشروع “غار جبيلات”. وبالتالي سجل تبون فشلا أكبر في مهمته الثانية (الانتصارات الوهمية)! أما الفشل البارز في ثالث مهماته (تصعيد حالة العداء الوهمي) فجاء مدويا كسابقيه على جبهة العدو الأزلي (المغرب)، والأعداء الوهميين كالجماعات الإرهابية، والسلطات الانقلابية في دول الساحل، والمليشيات المسلحة، بل وتوسع في استعداء دول خليجية كالإمارات العربية المتحدة، وزاد تحرشه بجواره المباشر في موريتانيا وتونس وليبيا. هذه التوترات لم تنجح في إقناع الشارع في الالتفاف حول نظامه، بل زادت في قناعته بعدم صلاحية هذا النظام بمكوناته المدنية والعسكرية، ورسخت الإيمان بضرورة التخلص من جميع أركانه.
وأمام هذا الواقع، يصعب إقناع جنرالات الجيش بقدرة الرئيس تبون على تدارك أخطائه الكارثية خلال العهدة الأولى، والمراهنة على منحه عهدة ثانية، حيث تشي جميع المظاهر بقرب نفاذ صبر الجزائريين على أوضاعهم المأساوية، وبضرورة تجديد الحراك بشكل أقوى وأشد. أما الجنرالات، فعليهم الاتفاق على مرشح بديل يمكن أن يحالفه نجاح أكبر في تحقيق المهام الثلاث التي فشل فيها تبون، وبالتالي مساعدتهم على استمرار الإمساك بزمام السلطة في هذا البلد المنكوب بحاكميه منذ نيله استقلاله “الصوري” عن فرنسا. مرشح يفضل أن يكون من الوجوه المعارضة ظاهريا، متوسط العمر، يمكنه أن يجلب بعض الهدوء في الشارع دون أن يفكر في تكوين سلطة موازية لسلطة العسكر.
كخلاصة، حتى وإن لم تتضح بعد ملامح مرشح الجنرالات لمنصب الرئاسة المقبلة في الجزائر، يبدو أن حظوظ الرئيس تبون في منحه عهدة ثانية من قبل جنرالات فرنسا مستبعدة، لفشله الواضح في تحقيق أي فائدة تذكر للنظام على مدى السنوات الأربع الماضية، اللهم إلا إذا ارتأت فرنسا غير ذلك، وهو الأمر المشكوك فيه. وعليه، فمن المتوقع أن يعيش الرئيس تبون شهوره الأخيرة في قصر المرادية بتكثيف زياراته الخارجية، ورفع النبرة العدائية تجاه المغرب، وشراء إنجازات اقتصادية “جاهزة” من هذا البلد أو ذاك وتسويقها محليا، والتفكير في تنظيم زيارة لبعض المدن الجزائرية لأول مرة منذ استلامه منصبه، وهي حالة جزائرية فريدة، تشكل سابقة عربية وأفريقية ودولية! وسيمكننا التعرف على مرشح العسكر البديل خلال الشهور القليلة المقبلة، من بين قائمة تضم حتى الآن المرشح السابق عبد القادر بن قرينة الذي يجتهد بشكل متكرر في تقديم أوراق اعتماده للعسكر، بجانب رئيس حمس السابق عبد الرزاق مقري، الذي يحظى بثقة الجنرال توفيق، وإن كانت صبغته الإسلامية المزيفة تجعله غير مفضل لجنرالات الجيش. فهل تأتي حركة الشارع أسرع مما يخشاه الجنرالات، ويتجدد المشهد المليوني لشرفاء الجزائر، على أمل أن ينجحوا هذه المرة في استكمال مهمة إسقاط نظام جنرالات فرنسا!!