بقلم: هيثم شلبي
شكلت الضجة التي أثيرت في وسائل التواصل الاجتماعي، حول ما اعتبره المغاربة “وقاحة” من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي سمح لنفسه بمخاطبة المغاربة مباشرة وليس عبر سلطاتهم، مناسبة لطرح السؤال المتعلق بسلوك الرئيس الفرنسي تجاه المغرب، وباقي مستعمراته السابقة: هل ماكرون “لا يريد” أن يفهم حساسية شعوب هذه البلدان، وفي مقدمتها المغرب، لهذا الخطاب، أم أنه “لا يستطيع” أن يتفهم هذه الحساسية بحكم عقليته الاستعمارية؟! صحيح أن النتيجة -في المحصلة- واحدة، وهي رفض الشعوب العربية والأفريقية لهذه السلوكيات الاستعلائية الاستعمارية، والتجاوزات البروتوكولية، لكن ما بين عدم الإرادة وعدم القدرة، طيف واسع من التأويلات والأحكام، يمكن لتوضيحها أن يلقي الضوء على مستقبل علاقة فرنسا بمستعمراتها السابقة.
من نافل القول، كبداية، أننا لا يمكن أن نضع سلطات وشعوب المستعمرات الفرنسية السابقة في سلة واحدة، فهناك من بين هذه السلطات تحديدا (معظم الشعوب ترفض فرنسا رئيسا وحكومة ولغة وثقافة) من لا يزال، بسبب انفصاله عن قاعدته الشعبية أساسا، يضع نفسه في موقع التابع للسطات الفرنسية، غير القادر على عصيان أي أمر يأتيه من باريس، أو من الإليزيه تحديدا، وهو ما يشجع السلطات الفرنسية على عدم القطع مع سياساتها وممارساتها الاستعمارية. هذا النموذج “التابع”، وأمام توالي الانقلابات في المستعمرات الفرنسية الأفريقية، بدأ في التناقص ليقتصر على بضع دول في شمال وغرب القارة، وذلك راجع بالأساس إلى المنافسة التي تواجهها فرنسا في مناطق نفوذها التقليدي من قبل قوى أخرى أهم وأقوى، كالولايات المتحدة والصين وروسيا، بل وتركيا.. والمغرب!
وهكذا، لم يكن المغرب أول المغادرين لموقع التبعية الاقتصادية والاستراتيجية لفرنسا فحسب، بل تحوّل بعد سياسة مدروسة مورست بنفس طويل، إلى المنافس الأبرز لفرنسا في مستعمراتها السابقة في غرب أفريقيا. وقد يقول قائل أن خسارة المغرب أقل وطأة من خسارة الجزائر بالنسبة لفرنسا، مما يفسر تمسك الرئيس ماكرون “بإرضاء” الجزائر ولو على حساب “إغضاب” المغرب، لكننا نقول على العكس من ذلك تماما، حيث إن غضب الجزائر قد يكلف فرنسا هذا البلد الهام “تاريخيا” لها، بينما يكلف غضب المغرب خسارة فرنسا لمنطقة الغرب الأفريقي برمتها، وهي المنطقة التي لا تقاس أهمية الجزائر بها! وهنا، من المفيد الإشارة إلى أن تفضيل الجزائر على المغرب ليس خيارا شخصيا للرئيس ماكرون والتيار الذي يمثله داخل أروقة الحكم الفرنسي، مبنيا على اعتبارات عاطفية أو اقتصادية كما يحلو للبعض القول، وإنما هو تعبير عن غضب هذا التيار من “التمرد” المغربي على الهيمنة الفرنسية، وتشكيله لنموذج وتيار استقلالي أفريقي عن فرنسا؛ وتحديدا “فرنسا الاستعمارية” التي يمثلها ماكرون وتياره، والتي لا تستطيع التخلي (وليس مجرد لا تريد) عن مقاربتها الاستعمارية في أسوأ أشكالها استعبادا، لجميع مستعمراتها السابقة؛ بكلام آخر، ولفهم سلوك فرنسا الاستعمارية التي يمثلها ويعبر عنها الرئيس ماكرون، يجب أن نعلم أنها في “حالة حرب” معلنة أو مستترة تجاه المغرب الذي يشكل تهديدا حقيقيا لمصالحها، وفي “حالة رضى” عن سلوك جنرالاتها في الجزائر، الذين يطبقون بشكل جيد كل ما يطلبه منهم السيد الفرنسي!!
يدرك ماكرون وباقي الطبقة السياسية الفرنسية، أن الخطاب المقبول، سواء المعلن أو ما يدور في الغرف المغلقة، تجاه المستعمرات الفرنسية السابقة في الوطن العربي وقارة أفريقيا، لا يمكن بحال تصور قبوله مغربيا، من طرف أقدم ملكية لا تزال قائمة دون انقطاع، وثاني أقدم أسرة ملكية حاكمة في العالم؛ وأن الخطاب الفرنسي الموجه للمملكة المغربية، يجب أن يراعي شكليات، يستطيع القفز عنها في حال مخاطبة دول أخرى. حقيقة، عبر عنها صراحة العديد من المسؤولين والدبلوماسيين الفرنسيين السابقين، وآخرهم الرئيس نيكولا ساركوزي. لكن الرئيس الفرنسي ماكرون وتياره، مصرّ على تجاهل الفرق بين مخاطبة “أمراء الحرب” اللبنانيين، والملوك الحقيقيين، ويتوقع -لغبائه- أن يحظى بحفاوة مماثلة في المغرب، لتلك التي يلقاها أصغر مسؤوليه من زعماء ميليشات فاقدة للشرعية، أو وكلاء استعمار مهما علا شأنهم أو كبرت مناصبهم. وعليه، يصرّ ماكرون مرة إثر أخرى، على استفزاز المغرب بأقوال وسلوكيات لا تراعي الحساسية المغربية، ويتلقى بالمقابل ردودا تناسب أقواله وأفعاله على المستويين الرسمي والشعبي. فخطاب ماكرون الأخير، أثار ردود فعل سلبية استحضرت مثيلتها عندما سمح لنفسه مع بداية جائحة كورونا بإصدار “أوامر للحكومة المغربية” للقيام بما يتوجب عليها فعله، تجاه عودة الفرنسيين العالقين في المغرب إلى بلادهم.
إن إصرار ماكرون على تكرار استفزازاته للمغرب دليل على أنه “غير قادر” على التخلص من “العقلية الاستعمارية”، رغم عبارات الغزل التي تصدر عنه بين حين وآخر، بينما يجعله الغضب تجاه الأدوار الاستقلالية للمغرب في أفريقيا “لا يريد” أن يراجع أسباب توتر العلاقة مع المغرب، وبالتالي من المرجح استمرار وضعية التأزم في العلاقة بين البلدين، إلى حين مغادرة ماكرون للإليزيه، على أقل تقدير!! عناد لن يؤدي سوى إلى زيادة الفاتورة التي ستدفعها الجمهورية الفرنسية الاستعمارية الخامسة قبل إعلان وفاتها، لاسيما مع استمرار المغرب في امتلاك أوراق قوة إضافية، داخليا وإقليميا، لدرجة ستؤهله قريبا لقيادة معركة تحرر حقيقية من الهيمنة الفرنسية، وساعتها لن يكون بيد فرنسا سوى ورقة عداء النظام الجزائري للمغرب للرد من خلالها، مع علمها أن الوجه الآخر لهذه الورقة، مكتوب فيه نص شهادة وفاة هذا النظام، ومعه الجمهورية الخامسة، وسيؤدي تشجيع قيام حرب في المنطقة، إلى انبلاج فجر استقلال حقيقي، تستطيع فيه المستعمرات الفرنسية امتلاك مقدرات بلادها، وتأمين مستقبل أبنائها.