بقلم: شادي علاء الدين*
كان إحراق محمد البوعزيزي لنفسه فعلا شخصيا فرديا. كان يحتج بفعل ختامي ونهائي على عيش بات محاصرا بالنهايات والخاتمات التي كانت تدوسه كل لحظة باعتباره غير مرئي. كانت الشرطية التي صفعته لا تصفع رجلا، أو كائنا، أو موجودا ما، بل كانت تصفع كتلة غبار. كانت لا تعتقد أنها تصيب شيئا، بل ربما كانت تؤمن أنها تراقص نفسها، أو تهدد الغبار وتطرده.
إحراق البوعزيزي لنفسه كان الطريقة الوحيدة التي يمكنها أن تجعله مرئيا، وأن ينجو من حال الغبار ومصائره، ويَمْثُل في حيز الوجود بصفته ممتلكا لجسد هو مجال سلطته الأولى والأخيرة، يستطيع أن يفعل به ما يشاء، وأن يحوله إلى مشهد تراجيدي شخصي.
الترميز الذي تم بعد ذلك لهذا الجسد المحترق، والذي جعله أيقونة انطلاق الثورات كان لأنه كان جسدا متكررا وكثيرا، وكأن فعل إحراق البوعزيزي لجسده الذي يسكن في جل أجساد أهل المنطقة قد سمح لكل تلك الكتلة من الأجساد الغبارية بالظهور، دون أن تكون مضطرة إلى إحراق نفسها كي تكون مرئية.
البوعزيزي قام بهذه المهمة عنها، فصار فعل الإحراق وكأنه قد تم فعلا. صار كل من حمل أيقونية البوعزيزي يستطيع أن ينطق باسم جسده المحترق، وأن يدوّن في العلن مطالبته بأن يكون مرئياً ومسموعاً وصاحب حقوق.
كانت تلك الحركة عامة ولكنها بقيت محافظة على سمة الفردية وخصوصيتها. كانت حشداً من أفراد، وبقيت مقيمة في نقائها حتى صارت حشدا وجمهورا.انطلاقا من تلك اللحظة تماهت مع القتلة، وصارت ميالة لتكرار سيرتهم وخطابهم، وبذلك خرج البوعزيزي من دائرة الرمز، ليصبح أقل من صورة وأضعف من خبر عاجل.
حين أحرق تنظيم داعش الطيار الأردني معاذ الكساسبة بمثل ذلك التوثيق التفصيلي، كان الحشد المحتج قد أكّد خروجه من مقام الفرد ليصبح جمهورا، وهكذا صار داعش صاحب الخطاب ومنتجه، سواء أكان هذا الجمهور متماهيا معه أو معاديا له. المعنى الذي اتخذه إحراق الكساسبة كان متمركزا في قوة الصورة التي لا تترك مجالا للخيال كي يعمل ويشتغل، وتاليا ليس هناك من مجال للترميز ولا للأيقنة بل فقط للتلقي.
داعش لم يرسل الصورة بكل ذلك الإفراط التقني المتقن والعالي الجودة تاركاً لنا الحق في تأويلها، بل كان ذلك الإفراط التقني هو المعنى والتأويل في حدوده النهائية التي لا يمكن لأي متلقّ تجاوزهما. هكذا بات الجمهور أسير صورة داعش ومنطقها، وعاد البوعزيزي ليصبح غباراً ونسياناً، وعاد ليسكن العدم.
مشهد إحراق الحشد الشعبي في العراق للفتى عبدالله عبدالرحمن يحاول أن يقول إن هذا الفعل إنما هو فعل منهجي، ومنظم، قانوني وشرعي، ويمثل انتقام الدولة والقانون.
مشروعية الحشد الشعبي تمنح هذا الإحراق، الذي تم بعلنية وتبجح، هذه المعاني. الفكرة التي قادت هذا الفعل كانت تهمة الداعشية، وما لم يكن في هيئة عبدالله ما يؤكد الداعشية بشكل حاسم، فإن فعل الإحراق العلني، المتشفي، والحاقد، والذي جرى بعد تعليقه كما تعلق الذبائح، كفيل بإثبات التهمة وجعلها نهائية.
يغرف الحشد الشعبي من بحر داعش. لا تبدو المقارنة التي تمت بينه وبين داعش محقة، فهو فاشل وضعيف في العمل على الصورة، ولا يملك القدرة على إنجاز صورة متمتعة بكل ذلك الهول والبذخ التقني الذي يجيدهما التنظيم.
داعش هو طموح الحشد الشعبي ومثاله. كل ما يفعله إذن أنه يحيل إلى داعش، ويشير إليها، ويذكر بها، ما يعني أنها أصل تصدر عنه كل الأفعال. هكذا يصبح داعش هو مالك فعل الإحراق بغض النظر عن الذي يقوم به فعلا.
المسافة بين التمكين التقني للصورة الداعشية، وذلك الإخراج المهلهل والرث لصورة الحشد الشعبي، هي المسافة التي تؤمن للحشد الشعبي البراءة في نظره ونظر مؤيديه، بحيث يبدو حدث الإحراق وكأنه فعل عرضي تم صدفة، ويُمنح بذلك صفة العابر، والتافه، وعديم الشأن والقيمة.
إنه فعل إحراق عادي لا يمكنه الانتساب إلى نادي الإحراق القيامي الهولي الداعشي. المبالغة والرعب ليسا من جنسه، بل ينتميان إلى ردود الفعل عليه. هكذا يُتهم كل من أغضبه هذا المشهد بأنه داعشي، لأن المبالغة والتهويل هما من السمات الداعشية وكل ما عداها فهو عادي.
هكذا لا يكون هذا الفعل فعل قتل طائفي ممنهج ومدروس ومقصود، بل مجرد سينما ميدانية لمقاتلين شرعيين.
جسد عبدالله عبدالرحمن المحترق المتفحم يصيّره داعشيا، وتاليا يبدو فعل الإحراق وكأنه اكتشاف للأصول ليس إلا، وهو فعل تنسب المسؤولية عنه إلى داعش التي بثت ذاتها في روح كل أهل العراق من غير الشيعة.
إذا كانت الذات الداعشية تمتلك القدرة على التخفي والظهور في هيئات خادعة كهيئة المعلم التي كان يرتديها عبدالله عبد الرحمن، فإن الإحراق كفيل بإظهار الذات الداعشية الكامنة بوضوح لا يقبل الجدل.
الجثة المتفحمة لعبدالله عبدالرحمن ليست سوى كفن داعشي للمنطقة بأسرها.
*كاتب لبناني/”العرب”