أهم ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، وبمنتهى الجدية، مما جرى في باريس يوم الأربعاء قبل الماضي، هو أنه على المعنيين أن يبادروا وبسرعة لإثبات أن هذا الإرهاب الدموي الذي ازداد تفشيا في الثلاثة عقود الأخيرة، وعلى مستوى العالم كله، لا علاقة له بالإسلام وأن المسلمين دولا وشعوبا وهيئات وأفرادا غير مسؤولين عنه، ثم وبالتأكيد فإنه لا بد من وضع حد لكل هذا التسيب في مجالات الإفتاء وارتقاء منابر رسول الله من قبل طارئين غير مؤهلين للتحدث في هذه الأمور أو مندسين تقف وراءهم قوى خفية تنفذ «أجندات» معادية لهذا الدين الحنيف الذي لا يجوز أن تلصق به كل هذه التشوهات التي ازدادت تفاقما في الفترات الأخيرة.
إن المعروف أن الدين الإسلامي قد تعرض مرارا لمثل هذا التشويه المتمثل في «القاعدة» و«داعش» و«بوكو حرام» وباقي هذه التنظيمات التي انطلقت من ذلك التحشيد الذي لجأ إليه الأميركيون لمواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان فهناك ظاهرة القرامطة التي خرجت من رحم المذهب الإسماعيلي، والتي ارتكبت فظائع وصلت إلى حد منع المسلمين من الحج إلى بيت الله الحرام ووصلت إلى حد اختطاف «الحجر الأسود» وإخفائه لأكثر من 20 عاما، وأيضا فقد كان هناك «الحشاشون» الذين انطلقوا من قلعة «ألموت» بقيادة حسن الصباح واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وحاولوا اغتيال بطل الأمة الإسلامية صلاح الدين الأيوبي في تلك الفترة المبكرة من التاريخ بخناجرهم المسمومة.
لقد حدثت مثل هذه الأمور في لحظة انهيار وضعف مر بها المسلمون في نهايات الدولة العباسية لكن ونظرا لاختلاف ظروف ذلك الوقت عن الظروف الراهنة فقد بقيت ظاهرة «القرامطة» محصورة في نطاق ضيق وفي مساحة جغرافية محدودة وهذا ينطبق على «الخوارج» وعلى «الحشاشين»، وربما أيضا على «المعتزلة» الذين كانوا قد أقنعوا الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد بفرية: «خلق القرآن» ودفعوا ورثته في الحكم للتخلص من واحد من أهم أئمة المسلمين الذي هو أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
لقد كانت هناك عثرات على مدى التاريخ الإسلامي لكنها في الحقيقة لم تصل إلى مستوى هذه العثرة الحالية، والأسباب هنا متعددة وكثيرة، وأولها أن التطور البشري قد اختصر المسافات وجعل الكرة الأرضية بحجم إحدى شاشات أجهزة التواصل الاجتماعي وجعل الأمم والشعوب تتداخل، كل هذا التداخل الذي تسبب في كل هذه المشاحنات وكل هذه الصراعات وفي كل هذا الانتعاش العنصري الذي نراه في كثير من الدول الأوروبية.
والمشكلة هنا أن بعض «المغتربين» العرب قد تحولوا إلى «مستشرقين» وهم بدل أن يتعاطوا مع جريمة باريس يوم الأربعاء قبل الماضي، المدانة والمرفوضة والإرهابية فعلا وحقيقة، بالطرق الصحيحة وعلى أساس واقع الحال بادروا، لتحاشي «تسونامي» التهم التي غدت تطلق في فرنسا والغرب كله جزافا، إلى ما يمكن تسميته بـ«جلد الذات» فاتجهوا بانتقاداتهم وتجريحهم للدين الإسلامي واعتبروه المسؤول عن كل هذا العنف وكل هذه الجرائم التي ترتكبها «القاعدة» ويرتكبها «داعش» و«النصرة» والأجهزة الأمنية التي استطاعت التسلل إلى داخل كل هذه التنظيمات الإرهابية.
وكل هذا وبينما كان على الذين انتدبوا أنفسهم للتحدث عن أسباب ودوافع جريمة باريس يوم الأربعاء قبل الماضي أن يتذكروا أن المسؤول عن تحول من ارتكبوا هذه الجريمة إلى قتلة وإرهابيين هو التاريخ الاستعماري البشع لفرنسا، وهو المجتمع الفرنسي الذي لم يستطع أن يستوعب هؤلاء مع أنهم فرنسيون أبناء وأحفاد فرنسيين، فالمعروف أن هناك ظاهرة سقوط في الجزائر خلال مراحل الثورة الجزائرية المجيدة هي ظاهرة «الحركيين».. و«الحركيون» هم الذين وقفوا ضد هذه الثورة واختاروا الرحيل إلى الدولة المستعمرة لبلدهم ولأكثر من 130 عاما، وهنا فربما أن سعيد كواشي وشقيقه شريف كواشي ومعهما المتهمة حياة بومدين هم من أبناء هذه الفئة التي خانت وطنها وخانت ثورة شعبها وكانت النتيجة أنها بقيت غريبة وغير قادرة على الاندماج في مجتمع، رغم كل الصفات الجميلة التي يتمتع بها فقد ثبت أنه لا يستوعب الوافد ولا يقبل الغريب، وبخاصة إذا كان مسلما أو عربيا أو من إحدى المستعمرات الفرنسية في أفريقيا وفي غير أفريقيا.
إن الإسلام لا يتحمل مسؤولية هذه الجريمة البشعة والمدانة التي قام بها هؤلاء، فهم بالأساس لم ينشأوا في بيئة إسلامية، وهم بالأساس من إنتاج المجتمع الفرنسي الذي رفضهم ورفض آباءهم وأجدادهم وجعلهم يمتلئون بأحقاد دفينة على هذا المجتمع وحقيقة أن هذا لا ينطبق على فرنسا وحدها وإنما ينطبق أيضا على معظم أو كل الدول الاستعمارية الغربية التي سيطرت على دول وعلى مقدرات شعوب كثيرة والتي انكفأت وعادت بعد عقود طويلة ومعها أرتال من العمالة الرخيصة التي أنجبت هذه الأجيال الحاقدة التي ظهر فيها كثيرون من أمثال سعيد كواشي وشريف كواشي وحياة بومدين، وأيضا من أمثال هذا السنغالي أحمدي كوليبالي الذي قاده حظه العاثر ليترك وطنه الأصلي وغاباته وشواطئه الجميلة ويأتي إلى مدينة باريس الصاخبة ليعيش مشردا، إلى أن التقطه الإرهابيون ووضعوه على هذا الطريق الشائك الذي أوصله إلى ما وصل إليه.
هناك مثل عربي يقول: «الآباء يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون»، ويقينا أن مسؤولية الألوف من الذين غادروا «أوطانهم» الغربية، الأوروبية تحديدا، والتحقوا بالتنظيمات الإرهابية: «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» لا تقع لا على الإسلام ولا على المسلمين، بل على المجتمعات التي التحق بها آباؤهم وأجدادهم، والتي لم تستطع استيعابهم، بل رفضت مثل هذا الاستيعاب.. إن هؤلاء بقوا يشعرون أنهم غرباء وبقوا يحسون بالعنصرية تحاصرهم أينما ذهبوا ولهذا وبمجرد أن لاحت لهم إمكانية للهروب من هذا الواقع المؤلم، فإنهم لم يترددوا إطلاقا وذلك مع أن حالهم كحال «المستجير من الرمضاء بالنار».
ثم أنه غير صحيح على الإطلاق أن هذه الظاهرة الإرهابية تكاد تختصر على العرب والمسلمين فالمعروف أن «الألوية الحمراء» الإيطالية ارتكبت من الجرائم الإرهابية أبشع كثيرا مما ارتكبه الذين نفذوا جريمة الأربعاء قبل الماضي، سعيد وشريف كواشي وأحمدي كوليبالي، والمعروف أن جرائم «المافيا» إن في الولايات المتحدة وإنْ في البلد الأم إيطاليا لا تقل بشاعة عن جرائم «داعش» و«النصرة»، والمعروف أيضا أن ألمانيا (الغربية) كانت قد عانت من إرهاب تنظيم بادر ماينهوف، وإن إسبانيا لا تزال تعاني من إرهاب التنظيمات الانفصالية التي كان بعضها يتموضع على الأرض الفرنسية.
لم يتهم البريطانيون الكنيسة الكاثوليكية بأنها وراء إرهاب الجيش الجمهوري الآيرلندي الذي كان يضرب حتى في لندن نفسها والذي تعاون في فترة من الفترات حتى مع معمر القذافي، ولم تُتهم الكنيسة الأرثودكسية بأنها وراء التنظيمات الإرهابية اليونانية التي ظهرت في سنوات سابقة وبعضها لا يزال مستمرا حتى الآن، وكذلك فإن المعروف أن الكثير من الدول الأفريقية قد شهدت إرهابا أكثر كثيرا من إرهاب «داعش» وشهدت مذابح جماعية، رواندا على سبيل المثال، لكن أصابع الاتهام لم ترتفع ضد أي دين أو جنس أو قومية كما هي ترتفع الآن ضد العرب والمسلمين.
وهكذا وفي النهاية فإنه لا شك في أن ما جرى في باريس يوم الأربعاء قبل الماضي هو أبشع أشكال وأنواع الإرهاب وإنه لا بد من إدانته، لكن وهنا أيضا فإنه لا يجوز تحميل الإسلام كإسلام ولا تحميل المسلمين كمسلمين مسؤولية هذه الجريمة التي وقع مثلها وأكثر ويوميا في باكستان وفي سوريا وفي العراق وفي لبنان وفي اليمن.. إن الإرهاب لا دين له وإنه ظلم ما بعده ظلم أن يعتبر ماركة إسلامية وعربية مسجلة.
* كاتب أردني