لقد خاض الفلسطينيون الآلاف من ساعات التفاوض مع الإسرائيليين، كما وقعوا المئات من مذكرات التفاهم ومن الاتفاقيات للوصول إلى حل يمكنهم من إقامة دولة مستقلة وذات سيادة. كما أن شرعية قضيتهم الدولية رسخت في قرارات دولية عديدة من ضمنها قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (3236) و(2649) و(455.65) التي أكدت جميعها على حق الفلسطينيين في تقرير المصير. كما أن القرار رقم 2672 يؤكد على أن مبدأ احترام حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف هو السبيل الوحيد لتحقيق سلام شامل وعادل في منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ثم إن قرار محكمة العدل الدولية بلاهاي الهولندية في فتواها الاستشارية لسنة 2004 المتعلقة بتشييد جدار الفصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقر بعدم قانونية تقويض حق الفلسطينيين في تقرير المصير. ولا ننسى أن قرار مجلس الأمن التاريخي رقم 242 الذي أكد على عدم شرعية الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة يعني أنه لا أحقية لإسرائيل في أي شبر من الأراضي التي احتلتها في عام 1967. ولكن مع ذلك تجد القضية الفلسطينية نفسها اليوم مع حلم واقع قيام دولة مبتورة أي ذات سيادة محتملة على 22 في المئة فقط من أرض فلسطين التاريخية، وهي مساحة صغيرة جداً وتتقلص رويداً رويداً بفعل استراتيجية خبيثة يتبعها القادة الإسرائيليون مجسدة في المستوطنات والمصادرات والمناطق العسكرية الإسرائيلية المتزايدة… وهذه، وأيم الله، كارثة عظمى ليست بعدها كارثة.
والرئيس الفلسطيني يبحث اليوم عن قرار يطالب بتحديد موعد نهائي لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية وإقامة الدولة… والطريق صعب وشائك بسبب المساندة الأميركية لإسرائيل وهي الحامية للخطوط الحمراء التي ترسمها لها… فليكن ذلك! لأن الفلسطينيين يجب أن يعوا أن النظام الدولي يتغير وأن ميكانيزماته المختلفة تتطلب منهم تحركاً سريعاً مستعينين بالصحوة الاعترافية الجديدة التي كان بطلها في أوروبا، وتحديداً البرلمانات الأوروبية، بمعنى ممثلي الشعوب الأوروبية الذين يصوغون القوانين التشريعية ويراقبون حكومات بلدانهم باسم الشرعية الانتخابية الديمقراطية التي أوصلتهم إلى تلكم الكراسي… فالسويد اعترفت بفلسطين (في أكتوبر) برلماناً وحكومة بمعنى أنه اعتراف نافذ وهو ما بعث روحاً جديدة للقضية الفلسطينية… وبرلمانات إسبانيا وبريطانيا وإيرلندا وفرنسا أجرت تصويتاً دعمت فيه قرارات (وهي غير ملزمة) لصالح الاعتراف بفلسطين، ودول كالبرتغال وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا وإيرلندا قد تقوم بما قامت به السويد وهي مسألة وقت فقط… وأحيي هنا برلمانيين مقتدرين من أصول عربية حركوا المياه الراكدة التي حماها اللوبي اليهودي منذ عقود، ونادوا في أروقة البرلمانات وفي مختلف المناسبات بضرورة تغيير المنكر ورد الحقوق إلى شعب انتهكت حرماته ومقدساته وهضمت أدنى حقوقه الإنسانية، فوجدوا آذاناً صاغية حتى من الأحزاب اليمينية والمحافظة التي صوتت لصالح القضية الفلسطينية.
إن الصحوة الأوروبية والعالمية (135 دولة تعترف بفلسطين) يتعين أن تكون دافعاً للفلسطينيين اليوم في السير بعيداً بقضيتهم المشروعة… والضبابية المحيطة اليوم في السياسة الخارجية الأميركية تجعل حتى أقرب الحلفاء لا يعتمدون عليها لأنه يصعب أكثر فأكثر التنبؤ بما يمكن أن تقوم به أميركا، فهي أقل قدرة على الوفاء بالتزاماتها وترغب دائماً أن تتربع على كرسي دركي العالم المتزن والنافذ ولكن لا تريد دفع ثمن ذلك… ونتذكر جميعاً هنا أن تحرير دولة الكويت كان تمويله من قبل الكويت ومن قبل السعودية ودول أخرى ولم تمول من الخزينة الأميركية… ومتلازمة فييتنام جعلت أميركا آنذاك تنأى بنفسها عن الذهاب إلى بغداد في ذلك الوقت سيراً على منهج أيزنهاور مروراً بنيكسون وحتى الرئيس أوباما. والاستثناء الوحيد كان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فلأول مرة بعد ضرب اليابانيين لبيرل هاربر، تصاب أميركا بالإرهاب الأعمى في عقر دارها مما جعل جورج بوش مؤطراً من المحافظين الجدد يخوض حرباً شرسة أولًا على أفغانستان ثم على العراق ولكن في حالة العراق كان التدخل العسكري دون تفويض من الأمم المتحدة. ونتذكر السجال الجيو-قانوني الحاد بين كولن باول ودومينيك دوفيلبان، فانهزمت أميركا في التصويت في مقابل أوروبا، القارة العجوز، كما وصفها آنذاك ديك تشيني…. فأولى أن نعتمد على أنفسنا ولكن دون استفزاز موجع للولايات المتحدة الأميركية كما قال واحد من عمالقة المختصين في العلاقات الدولية البروفسور إيمانويل والرشتاين، وهو رأي يبدو واقعياً وسديداً في الوقت نفسه.
* رئيس المركز المغربي للدراسات الاستراتيجية والدولية/”الاتحاد” الاماراتية