تنذر الاحتجاجات والتظاهرات المتفرقة، جغرافياً وزمنياً، في الجزائر بانتفاضة شبيهة بتلك التي وقعت في الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) 1988، وأدت إلى إقرار دستور شباط (فبراير) 1989 في مرحلة أولى، وأكثر من عشر سنوات دماء في صراع بين قوى مختلفة، حول مصير الدولة الجزائرية، وحول توجهات شعبها في مرحلة ثانية، تلك المرحلة التي بقي بعض من أوزارها كحرب أهلية، لا تزال مؤثرة إلى الآن، ولها تبعاتها عبر مسارين، الأول: الفساد من منطلق أنه أصبح ثقافة عامة، والثاني: الإرهاب من حيث نخره المجتمع، وهوعلى قلّته مرشح للعودة، ما لم يتم الاعتراف به أو إدماج عناصره السياسية والعسكرية السابقة في أجهزة الدولة ومؤسساتها.
التوقع السابق لا يأتي من تأثر الجزائر بالمناخ السياسي العربي العام، ولا حتى من التفاعل مع الجيران، سلباً مع ليبيا لجهة رفض العنف الدموي هناك، وإيجاباً مع تونس من خلال تجربتها الراهنة، ولا هو تقييم لما يمكن أن تسفر عنه أخطار استمرار غلق الحدود مع المغرب، ولا رفض للهجرة الإفريقية التي غزت المدن الجزائرية الكبرى في الشمال وليس فقط في مدن الجنوب، حيث الحدود مفتوحة على الصحراء الإفريقية الشاسعة. الانتفاضة، إن حصلت، لن تكون وليدة عوامل خارجية، لأن أسباب الدَّفع الداخلية، كفيلة بتوجيه البلاد نحو انزلاقات – لا يرغب فيها معظم الجزائريين – لكن تفرضها الحاجات المعيشية والاقتصادية للناس، وما يتبعها من حاجات أخرى لعامل الزمن فيها تأثير خاص، وتفرضها أيضاً دوافع سياسية، ربما من أهمها البحث عن علاج للدولة الجزائرية يشفيها بعد مرضها بمرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، على رغم تعامل السلطات بسياسة الاستجابة الفورية للمطالب الشعبية، كلما بلغ التحدي درجته القصوى، كما حصل في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في مدينة تقرت (في الجنوب الشرقي)، والتي تبعد عن العاصمة بـ 620 كلم.
ومع ذلك، فالحالة ليست في مستوى السوء الذي تطرحه الفضائيات الجزائرية الخاصة (المستقلة)، فهناك منجزات تتحقق يومياً، ومشاريع تنجز، ورعاية متواصلة لأهالي الولايات والبلديات كافة تشمل السكن والصحة والتعليم، لكن الخلل يكمن في أمرين، الأول: غياب العدالة في التوزيع، والثاني: زيادة مطالبة الشعب بتلبية الحاجات الأساسية، وهو ما تعجز أي حكومة عن الإيفاء به في زمن قياسي، مهما أوتيت من تخطيط، وأعدت من برامج، ووفّرت من غلاف مالي، خصوصاً بعد أن سادت ثقافة الفساد، وعَمَّت فكرة نهب الدولة، من دون أن يكون لديها جهاز صارم للمتابعة والرقابة. المعطيات على الساحة الجزائرية تؤكد أن المطالب الاجتماعية واحدة على المستوى العام، من ذلك مثلاً، توفير السكن – أرضاً أو بناءً – وإتاحة الفرص في مجال العمل لكل المواطنين، وتوفير الخدمات الأساسية من كهرباء وغاز وصرف صحي، ولكن يتم الاختلاف في تفاصيل المطالب، كما قد تختفي تحته مواقف سياسية، أو حتى دينية.
سارت الجزائر خلال الخمسين سنة الماضية – وهي عمر استقلالها – نحو ترييف المدن، فتحولت المدن الكبرى مع الوقت إلى قرى لكن بحجم أكبر، والسبب تاريخياً معروف، وهو أن الأرياف مثّلت جبهة المقاومة الأساسية للاستعمار، ناهيك عن أنه لم تكن هناك طبقة عاملة تضاهي من الناحية العددية على الأقل حجم الفلاحين، ومع الوقت تراكمت المشكلات في المدن، وبقيت القرى والأرياف في استراحة مقاتل – إن جاز التعبير، ثم عادت إلى الحرب مكرهة حين اكتسح الإرهاب الجزائر في تسعينات القرن الماضي بتكلفة لم تكن أقل من تكلفة حرب التحرير إن لم تكن أبشع، ومعها أيضاً دفعت المدن الثمن لكن بتكلفة أقل من الناحية البشرية، وأكثر من القرى من الناحية المادية، وها هي اليوم تعود مرة أخرى لصناعة الحدث من جديد. إن متابعة الاحتجاجات المتواصلة في الجزائر خلال السنتين الماضيتين، تكشف جملة حقائق، من أهمها:
أولاً، أنها غير محددة في جغرافيتها، ففي يوم تقوم الاحتجاجات في ضواحي مدينة أو قرية في الجنوب، وفي اليوم نفسه أو بعده بيوم، تتحرك فئات اجتماعية لتقديم المطالب نفسها في الشرق أو الغرب أو الوسط، ومع ذلك كله لا يمكن اعتبارها مطالبة وطنية شاملة، أي أنها مطالب مناطقية.
ثانياً، أن لغة الاحتجاجات تحدٍ واضح لسلطة الدولة – وهي مصحوبة في الغالب بتضحيات من المحتجين قد تصل إلى القتل أو الإصابة بجروح أو حتى السجن – والصدامات التي وقعت في العديد من المناطق بين الشرطة والشعب دليل على ذلك.
ثالثاً، في تلك الاحتجاجات طغت المصالح الفئوية والجهوية على المصالح الوطنية العليا، وذلك يعد لغة وفعلاً جديدين في الجزائر، خصوصاً بعد أن تكّرست الاتهامات للحكومة من أنها توظف عمالاً في مناطق، أهلها أحق بها، بخاصة في ولاية ورقلة، وتحديداً حاسي مسعود حيث توجد آبار النفط.
رابعاً، ظهور الاحتجاجات في مناطق عرفت في تاريخها بالهدوء، وتلك حالة يرى فيها المراقبون بداية لتغير المزاج العام، وتشكل رأياً عاماً مناطقياً مختلفاً، ومتناقضاً مع الهوية الوطنية، علماًبأن نظام الحكم بقيادة الحزب الواحد – جبهة التحرير الوطني – عمل منذ الاستقلال، وحتى تشرين الأول (أكتوبر) 1988 من أجل ترسيخ الهوية الوطنية بحيث لم يسمح بأي احتجاجات صُبغت بمطالب جهوية.
خامساً، أن رد فعل السلطة على تلك الاحتجاجات، لا يتم عبر حل وطني شامل، وإنما ينظر إلى الأمر من زاوية قوة تلك الاحتجاجات، وتأثيرها في مسار حركة المجتمع، ويتم في الغالب تقديم حلول فورية وعاجلة، لكنها جزئية وليست كلية، وآنية وليست دائمة، ومُسكّنة لآلام الأمراض الاجتماعية، وليست قاضية على تلك الأمراض في شكل نهائي، ومع ذلك يرى فيها المحتجون حلولاً لمشكلاتهم، ما يدفهم إلى القيام باحتجاجات مماثلة.
سادساً، انعدام الثقة بين الشعب والسلطة، فمثلاً لم يعد مقنعاً للمحتجين حضور السلطات البلدية والولائية، ولا حتى الوزير المسؤول عن القطاع، وإنما لابد من حضور رئيس الحكومة، وهذا تطور ليس فقط في أسلوب الاحتجاجات، ولكنه وعلى مستوى أعلى يعد معارضة من الشعب للنظام، مادام هذا الأخير لم يقبل بالحوار مع المعارضة من أجل المشاركة في السلطة، بخاصة على مستوى رئاسة الجمهورية، غير أن هذا لا يعني أن المحتجين في كثير من الولايات الجزائرية يثقون بالمعارضة، وهذا يعني أن الجزائر تواجه إفلاساً سياسياً، وإن ادّعت السلطات غير هذا.
سابعاً، كثرة الاحتجاجات واتساعها جعلا الحكومة عاجزة عن توفير تغطية مالية للمطالب كما تعوّدت منذ ارتفاع أسعار النفط، حتى أن بعض المسؤولين يعتقد أنه لا يمكن حدوث انتفاضة في الجزائر، مثل تلك التي وقعت في الدول العربية الأخرى، ما دامت خزينة الدولة مليئة ببلايين الدولارات، ولا أدري كيف ستحافظ الحكومة الراهنة على استقرار البلاد في حال تواصل انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية؟ هناك شعور عام ينتاب قطاعاً عريضاً من الجزائريين بأن دولتهم غنية، وأن مصادر دخلها حكر على مناطق بعينها، وأن الوقت حان لأخذ الحقوق بقوة الاحتجاج، الذي قد يتحول إلى فعل مطالبة ظاهره السلم وباطنه العنف، وهذا الشعور مصدر قلق للسلطات، لكنها عاجزة على مستوى الرؤية وليس على مستوى المواجهة، ما يعني أن الرهان الحكومي على المال والقوة قد لا يحول دون انتفاضة كبيرة ، تراهن عليها المعارضة، ولا تخشاها حكومة عبد المالك سلال، لكنها تدرك إنها إذا عمّت البلاد ستكون ذات امتداد أفقي، وذلك يمثل تراكم الخبرة الجزائرية في الاحتجاجات على المستعمر وعلى الحاكم منذ ما يزيد على 150 عاماً.
* كاتب جزائري/”الحياة” اللندنية