في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011 عزفت تونس لحنها الثوري العذب وتمايل الشعب طرباً تناغماً مع ألحان لطالما اشتاق إلى سماعها سنوات طوال. قبل هذا التاريخ الجليل كانت قوافل الشهداء تسير خببا في مشهد قيامي مروّع في اتجاه المدافن، بعد أن حصد الرصاص المنفلت من العقال رقاب شباب تبرعم ربيعهم وأزهر في بساتين العمر الجميل.. شباب تقدموا بجسارة من لا يهاب الموت، ليفتدوا تونس بدمائهم الزكية، ويقدموا أنفسهم مهراً سخيّاً لعرس الثورة البهيج..
كان محمد البوعزيزي أوّلهم، حين خرّ صريعاً ملتحفاً ناراً بحجم الجحيم، ثم سقط من بعده شهداء كثر مضرّجين بالدّم، بعد أن أفرغ حفاة الضمير غدرهم في أجسادهم الغضّة، أجسادهم التي سالت منها دماء غزيرة. وفي الأثناء، كانت الفضائيات بارعة، وهي تمطرنا بمشاهد بربرية دموية لا يمكن لعاقل أن يصدّق وقوعها في بلد كان يزعم حاكمه أنّه من مناصري حقوق الإنسان!
ترى، كم احتاجت تونس إلى مثابرة وزخم ودم ليضطرّ الطاغية إلى الرحيل، ويضطر العالم إلى سماع صوتنا الذي ما كان أن يصل لو لم يكن له هذا الثمن الفادح؟
الإرادة وحدها قادرة على تحقيق نصر ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت.
هي ذي تونس، اليوم، وقد غدت استثناء. تونس التي أشعلت بثورتها المنطقة العربية بدرجات متباينة، لكن ردود الفعل على هذه الثورات هي ما صاغ اختلافاتها، علاوة على التمايزات في المكون الاجتماعي للدول العربية..
أقول تونس، استثناء، فمصر ما زالت مضطربة. وسورية تطحنها حرب أهلية، في مقابل أن ليبيا تعاني اضطرابات أمنية وسياسية، وشبح صراع أهلي مسلّح يخاض، ويخشى من تطوره لحرب أهلية شاملة. واليمن تحيط به انقسامات قبلية عميقة، ودعوات انفصالية في ظل فشل وشلل كامل للدولة، وتدخلات أطراف دولية وإقليمية..
عوامل عديدة مرتبطة بطبيعة تونس وحدها، جعلتها استثناء عن بقية دول الربيع العربي، أهمها طبيعة الجيش وطبيعة الانتقال السلس للسلطة، لتجعل من الانتخابات التشريعية التي جرت، أخيراً، في كنف النزاهة والشفافية النموذج الفريد في المنطقة العربية الذي يترجم وعي المجتمع التونسي، وقدرته الفائقة على الحفاظ على مكتسبات الثورة.
يقول بعضنا، إنّ استثنائية تونس يعود الفضل فيها إلى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وحقبته التاريخية التي امتدت عبر ثلاثة عقود، وفرض فيها قيماً حداثية وليبرالية، تقطف تونس ثمارها اليوم. ولكن، ما تحتاج إلى قراءة أكثر عمقاً مسألة الهوية في تونس. فتركيبة المجتمع لم تنتج انقسامات طائفية أو قبلية. وحكم التجاذبات في تونس الأفكار لا الهويات، وهو ما جعل الصراع على المجتمع أقل مما هو عليه في بقية دول الثورات. وهو ما سيجعل حتماً من المحاولات البائسة لتقسيم تونس مناطقيّاً: جنوب-شمال، ومن ثم إذكاء نار الفتنة بين الجهات، ضرباً من الأوهام الزائفة..
ومن هنا، تتجلى تونس كأهم نماذج الثورات العربية. تتجلى اليوم بوجه مشرق، كدولة عربية تعيش فترة انتقالية مستقرة نحو الديمقراطية والتعددية. تونس التي لم يلوثها القمع، ولم يُدِرْ دفتها العسكر. لن، يشتاق، شعبها لمشانق الدكتاتور. ولا لقمع دولة البوليس. ولن ينخرط في حرب أهلية لا أرضية لها ولا جذور.
ولكن. الصورة ليست ورديّة بأي حال، إذ لا تزال الملفات التي تحتاج إلى حلول بعد الاستحقاقات الانتخابية: التشريعية والرئاسية، عديدة ومتعدّدة، منها الملف الأمني، أو الإرهاب، والاضطرابات الاجتماعية والإنماء غير المتوازن بين المناطق، والصعوبات الاقتصادية الكبيرة..إلخ
ما يتفق عليه مهتمون عديدون بالشأن السياسي التونسي أنّ تونس تتجه إلى أن تصبح رائدة الديمقراطية في العالم العربي، لكنها، كما أسلفت، لا تزال تواجه تحديات ضخمة وفعلية. فالبلاد في أشد الحاجة للاستقرار السياسي، الذي يُعدّ الاستقرار المؤسساتي من أهم مرتكزاته. ولهذا، يكثر الحديث، في هذه الأيام، على نوعية العلاقة التي يجب أن تقوم بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة. وهو أمر ستكون له مدلولاته، في حال كان الرئيس الجديد من خارج الحزب الفائز.
* عضو بإتحاد الكتاب التونسيين/”العربي الجديد”