مثلت الثورة التونسية فاتحة الحراك الثوري العربي، والنموذج الذي استلهمت منه كثير من شعوب المنطقة الدافع لإطاحة أنظمتها المستبدة، وعلى الرغم من اختلاف السياقات والمسارات التي اتخذتها الأوضاع في دول الثورات العربية المختلفة، فإن حفاظ تونس على نموذجها الديمقراطي، وعدم سقوطها في براثن الفوضى والاحتراب الأهلي، منحها القدرة على مواصلة الدور الإيجابي الذي لعبته، بداية، فالمنجز الديمقراطي التونسي لازال ملهماً ومؤثراً، وتتطلع إليه الشعوب الأخرى، بوصفه التجربة الأكثر نجاحاً والأقل تعثراً من بين التجارب الثورية في المنطقة.
ويمكن تلخيص أهم آثار الحراك السياسي التونسي على المنطقة، في جملة نقاط:
بدايةً، مثلت تونس، ومن خلال إنجازها للانتقال الديمقراطي، طوال السنوات الثلاث الماضية، وبأقل قدر ممكن من الخسائر، ومن دون وقوعٍ في الفوضى التجربة الأنجح في المنطقة العربية، وهو ما يؤهلها لأن تواصل دور النموذج الذي يرسم أجندات المنطقة، على الرغم من أن تونس ليست دولة محورية جغرافياً، ولا ذات تأثير مالي واقتصادي، غير أن مركزية التأثير فيها تكمن في لعبها دور النموذج في حالاته المختلفة (نموذج الثورة ونموذج الانتقال الديمقراطي ونموذج إدارة الخلافات السياسية ديمقراطياً، ومن خلال صندوق الاقتراع).
ـ شكلت الانتخابات التونسية، أخيراً، (النيابية والرئاسية) فرصة لتثبيت جملة حقائق، لعل أبرزها إمكانية التداول على السلطة، ونسف الفكرة المتداولة لدى قوى غربية وامتداداتها المحلية في المنطقة، والتي مؤداها أن الإسلاميين يتخذون الديمقراطية أسلوباً للوصول إلى السلطة، ومن ثم للاستيلاء على أجهزة الدولة، وإلغاء كل أشكال الديمقراطية بعدها. هذا الوهم المبالغ فيه تم نسفه في تجربة حكم الترويكا، أولاً، حيث لم يستأثر التيار الإسلامي بالحكم، وخاض التجربة على صعوبتها، من خلال التحالف مع قوى علمانية. وثانياً، أثبتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي احتل فيها حزب النهضة المرتبة الثانية استعداد هذا التيار للتعامل مع الشأن السياسي، مع قبول واضح لنتائج الصندوق، مع الاستعداد لمد الأيدي للتعامل مع الوافدين الجدد للسلطة.
ـ مثل التراجع الانتخابي النسبي لحركة النهضة مناسبةً لكي تدرك قوى كثيرة أن الإسلاميين، كغيرهم من الأحزاب الديمقراطية، يمكن إبعادهم بالصندوق عن موقع القرار في الدولة، من دون حاجة إلى منطق الانقلابات، أو دفع نحو الفوضى أو العنف.
وفي المقابل، كان للتطورات التي شهدتها باقي دول الحراك الثوري العربي تأثيرها الواضح على المشهد السياسي التونسي، وهو تأثير، في مجمله، ينحو نحو السلبية من دون أحكام معيارية، فما جرى في مصر، مثلاً، قدم نموذجاً سيئاً لإطاحة الإسلاميين، وعلى الرغم من تحفّز بعض القوى الحزبية التونسية، وتأييد بعضها ما جرى في مصر، في حينه، وثنائها عليه، (بيانات صدرت عن الجبهة الشعبية والاتحاد من أجل تونس تأييداً للانقلاب المصري)، غير أن الحدث المصري، وما أفضى إليه من مجازر جماعية، ومن حالة انفلات أمني، في مناطق جغرافية في مصر (سيناء مثلاً)، بالإضافة إلى عجز الانقلابيين عن حل الأزمات التي يعانيها البلد واستمرار التدهور الاقتصادي والأمني، قد جعل غالبية الشعب التونسي يتعامل مع النموذج الانقلابي المصري بتحفظٍ واحترازٍ كثيرين، بل والانتقاد والرفض، في أحيان أخرى.
لقد فشل الانقلاب في مصر، حتى وإن سيطر على المشهد السياسي، فشل في تقديم نموذج سليم بديل للرئيس الذي أطاحه، والذي وعلى الرغم من كل أخطائه لم يغلق قناة واحدة، ولم يحاكم سياسياً واحداً، ولم يتعرض أي فصيل سياسي إلى مجزرة، كما فشل الانقلاب في أن يسير بالبلد إلى الاستقرار، بل تقدم به خطوة نحو مزيد من التشطير الاجتماعي والتمزق السياسي، لأنه، ومهما كانت المبررات، لا يمكن إلغاء فصيل سياسي كبير، وممتد في التاريخ، ومتجذر في المجتمع، بين عشية وضحاها، ومهما كانت وسائل حسم الصراع عبر فوهات البنادق وسكاكين البلطجية، لا يمكن أن تحول الإسلاميين إلا إلى شهداء. ألم يكن أجدى بخصوم الإسلاميين في مصر ما داموا واثقين من جماهيريتهم، ومن نفوذهم الشعبي، أن يهزموا الإسلاميين انتخابياً، وبالتالي، تحويلهم إلى مجرد فصيل هامشي، بتأثير محدود؟
أما ما يجري في الجارة ليبيا، وتطور الأوضاع فيها إلى نمط من الصراع العسكري المفتوح، فقد ألقى بثقله على المشهد التونسي، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، كما أصبح عاملاً للتجاذب السياسي، خصوصاً مع محاولة جهات إعلامية وسياسية تونسية محسوبة على النظام القديم، ممارسة نوع من الانحياز نحو أطراف ليبية محددة (خصوصاً جناح خليفة حفتر) وتوظيف ما يجري على الأرض الليبية، بوصفه صراعاً ضد الإرهاب، ومحاولة التلاعب بعقول التونسيين، وممارسة نمط من الإرهاب الخطابي عليهم، مؤداه أن الخطر القادم من ليبيا يقتضي تأييد القوى المنادية بالتضييق على الحريات، والراغبة في الانقلاب على المسار الثوري، تحت شعار “هيبة الدولة”، على الرغم من أن الحكمة تقتضي مراقبة المشهد الليبي عن كثب، والسعي إلى إيجاد نوع من الحوار الوطني الليبي، يفضي إلى مصالحة وطنية شاملة، تخدم كل الأطراف، وتنزع فتيل الاحتقان في كل المنطقة.
ما جرى في تونس من خطوات فعلية، نحو ترسيخ شكل ديمقراطي للممارسة السياسية في البلاد، وعلى الرغم مما تبذله الدول الداعمة للثورات المضادة من جهد، للالتفاف على هذا المسار، فإنه، يمكن القول، إنه يصعب استنساخ النماذج الانقلابية، وتعميم الفوضى، ونقلها إلى تونس، لعوامل كثيرة، أقلها الخصوصيات التي تميز البنية المجتمعية، والهيكل السياسي القائم في كل بلد، والملابسات الداخلية والتجاذبات الإيديولوجية التي تتشكل من خلالها المجتمعات. وكما أكد إيريك هوبزباوم، لكل ثورة خصوصيتها، من حيث الزّمان والمكان، وليس هناك تشابهٌ، أو تطابق بين ثورتين. وفي السياق العربي، لكلّ بلد خصوصيته من التكوين الديمغرافي والطبيعة الجغرافية، وحتى طبيعة المزاج الشعبي، فتونس تختلف، بتركيبتها الديموغرافية وطبيعتها الجغرافية، عن الدول المجاورة، ولها خصوصيتها التي تميّزها عن الآخرين. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على باقي البلدان، من دون أن يعني هذا نفياً لما يسميه هوبزباوم نفسه “نظرية انتشار العدوى”، أي امتداد الثورات جغرافياً، وتأثرها ببعضها سلباً وإيجاباً، والتاريخ يذكر مدى الهزّة التي أحدثتها الثورة الفرنسية في كامل المحيط الأوروبي، بل وكان لها صداها المدوّي في الفكر الفلسفي نفسه، (موقف كانط من الثورة الفرنسية والموقف الهيجلي من الغزو النابليوني لألمانيا)، وهو أمر نجد له شبيهاً في التأثير الذي أحدثته الثورة التونسية في المنطقة العربية، الأمر الذي جعل دول الاستبداد الباقية تبذل جهدها من أجل منع انتشار الحمى الثورية، وتحول الرغبة في الحرية إلى سحر جاذب، يخلب لبَّ الشعوب الطامحة في إسقاط أنظمتها المتعفنة.
* كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي/ “العربي الجديد”