تجاوز الفرقاءُ السياسيّون، وهم ينتخبون مكتب رئاسة المجلس بأغلبية كبيرة، خلافاتهم وتجاذباتهم وأبرزوا قدرا كبيرا من المسؤوليّة في توفير أرضيّة مُلائمة لتسهيل عمل السلطة التشريعيّة وهو ما بدا واضحا من شروع مكتب رئاسة المجلس ولجنتي النظام الداخلي والمالية في اشغالها بشكل سريع يدفعُ أكثر ما يدفع إلى العمل وتخطّي العقبات وربح الوقت خاصة مع التحديات الماثلة وضغط المصادقة على ميزانيّة الدولة وقانون المالية.
الانطلاقة الجيّدة لمجلس نواب الشعب تفتحُ آمالا أمام إمكانيّة دخول البلاد في مرحلة سياسيّة جديدة تتخلّص فيها من سلبيات الماضي من رغبات في الاقصاء والهيمنة وصراعات وتجاذبات حزبيّة وإيديولوجيّة ومصلحيّة ضيّقة لفائدة رؤية جديدة عنوانها الأساسي خدمة المصلحة الوطنيّة أوّلا وأخيرا.
والمصلحة الوطنيّة اليوم هي بالتأكيد في تقارب الحزبين الكبيرين وفي بدء مسار المصالحة والتعايُش السلمي والمدني بين أهم العائلات الفكريّة والسياسيّة التي تجدُ صدى لها في حزبي النداء والنهضة.
لم يكن للأصوات الغاضبة والمُنتقدة لما جرى في جلسة انتخاب مكتب رئاسة مجلس النواب صدى كبيرا ويبدو أنّ الكثير ممّن كانوا يُحدثون الضجيج في السنوات الأخيرة في اتجاههم لتصويب خياراتهم وتعديل خطاباتهم والابتعاد عن دائرة التهريج والفوضى بعد أن قدّم الحزبان الكبيران درسا بليغا في القُدرة على التوافق الإيجابي ووضع مصلحة البلاد فوق المصالح الحزبيّة والمغانم الفئويّة والحسابات الضيّقة.
من الواضح أنّ التصويت المتبادل بين نواب النداء والنهضة هو بداية لمرحلة سياسيّة جديدة في بلادنا تمتدّ فيها الأيادي وتصفى فيها القلوب والمشاعر وتنخفضُ فيها عوامل التوتّر والاحتقان وتتوحّد فيها الإرادات لهدف أو مشروع وطني مُشترك ينظرُ بإدراك ووعي كبيرين للقضايا والملفات الوطنية الكبرى.
إنّها دونما شكّ بداية طريق للمُشاركة الواسعة في إدارة شؤون الدولة بعيدا عن نوايا الهيمنة أو التسلّط والانفراد أو الاقصاء، ولا شيء يمنعُ اليوم من أن يتمّ استنساخ السيناريو الإيجابي لانتخاب مكتب رئاسة المجلس في الاستحقاقات السياسيّة القريبة وعلى رأسها الدور الثاني للانتخابات الرئاسيّة وتشكيل الحكومة.
نعم، لا شيء يمنعُ من أن يُواصل الفاعلون السياسيّون الكبار توافقاتهم من أجل مزيد تعزيز عنصر الثقة المتبادل ودعم روح الشراكة والعمل الجماعي بما سيمنحُ أوضاع البلاد المزيد من الهدوء والاستقرار وسيُوفّرُ مجالات واعدة أمام مُعالجة القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة العالقة والتصدي لمخاطر الارهاب والتهريب والجريمة المنظّمة. لقد قدّمت الجلسة الافتتاحية لمجلس نواب الشعب مشهدا جميلا ظهر فيه التونسيّون، وعلى اختلاف انتماءاتهم الحزبيّة، مُتشابهين حدّ التطابق قادرين على التفاهم وتقريب وجهات النظر وعقد الاتفاقات الايجابيّة والواعدة وإبراز روح عالية من الوعي والمسؤوليّة.
إنّها، على الأرجح، بداية طريق واعدة لتونس هادئة ومستقرة يتعايشُ فيها الجميع بثقة واحترام وبحريّة وكرامة وتهدأُ فيها النفوس وتغيبُ عنها الاجندات الايديولوجيّة التخريبيّة والفوضويّة وتحضرُ فيها المشاريع والرؤى الوطنية الكبرى.
* خبير العلاقات الإنسانية/ “الشروق” التونسية