التاريخ الليبي جرابٌ كبيرٌ، وكيسٌ واسعٌ مملوءٌ بالأحداث الكثيرة، والحكايات العجيبة، التي تدلل على أنَّ الليبيين رغم ما أصابهم من أهوال وما تعرضوا له من استعمار وغزو وتنكيل، غير أنهم كانوا ولايزالون صبورين جدًّا على نوائب الدهر وضربات الزمان، وليبيا هذه الصخرة القوية التي تتوسط العالم العربي، وتقبع في مكان مهم جدًّا في الشمال الأفريقي، وتطل بساحل طويل على جنوب قارة أوروبا كان موقعها الاستراتيجي سببا كافيًّا جدًّا لتكون مطمعًا للمستعمرين والغزاة منذ آلاف السنين قبل الميلاد.
وقصة ليبيا مع الطغاة والمستعمرين طويلة جدًّا، فقد استوطنها الفينيقيون القادمون من بلاد الشام منذ العام 1100 قبل الميلاد، وبعدهم الإغريق العام 631 قبل الميلاد، ثم الرومان العام 639 قبل الميلاد، فالجرمانيون الذين دامت سيطرتهم على دواخل ليبيا لفترة جاوزت الألف العام، ثم استعمرها الوندال العام 430 م، والعام 643 م فتح القائد عمرو بن العاص ليبيا وبقت تحت الخلافة الإسلامية حتى انفصل الأغالبة بليبيا العام 800م، ثم الفاطميون العام 969 م، ومن بعدهم النورماند العام 1145 م، الذين طردهم الموحدون العام 1158م ، ثم استعمرها الإسبان العام 1510 م، وبعدهم فرسان مالطا العام 1530 م، ثم قدم الاتراك العام 1551 م الذين استعمروا البلاد أربعة قرون، ليحتلها الإيطاليون العام 1911م، والفرنسيس والإنجليز حتى نالت ليبيا استقلالها مع مطلع الخمسينات من القرن المنصرم، ليحكمها الملك إدريس السنوسي ثلاث عشرة سنة، ومن بعده القذافي أربعًا وأربعين سنة.
ويقول التاريخ إنَّه في كل نائبة وبعد كل ضربة ينهض الليبيون من جديد بعزيمة أقوى وحماس أكبر وصلابة أشد مستمدة من قناعتهم أنَّ بلادهم ليبيا أكبر من أطماع المستعمرين الغزاة، وأنَّها أكبر من أطماع بعض أبنائها وخلافاتهم على ثرواتها، وأكبر أيضًا من كل الطغاة. فكانت ليبيا بعد ظلم كل طاغية جبار تستمر مسيرتها، وتستعيد قوتها من جديد، وسواء كان سباتها طويلاً أو قصيرًا، فإنَّ صحوتها دائمًا تؤكد وتثبت لنفسها ولأصدقائها وأعدائها على حد سواء أنَّ شعبها رغم المصائب والمحن التي تحدث لهم، فهم رقم صعب ومهم في المنطقة العربية والعالم لا يمكن تجاوزه والمرور من فوقه أو من تحته بل لابد من أنْ يوضع في مكانة الصحيح بحسب التاريخ والجغرافيا والسياسة، وبحسب كل الحسابات التي بها تسجل للشعوب والدول أهميتها وميزانها وقيمتها أمام باقي شعوب العالم ودوله.
هنا نعرض لبعض ما فعله رودولفو قرسياني ومعمر القذافي كطاغيتين أضرا بليبيا، وببعض الليبيين أثناء سيطرتهما وحكمهما البلاد، وكيف نكَّلا بمعارضيهما أشد تنكيل وشدا ليبيا للوراء، كل بطريقته وبحسب ما توفر له من إمكانات ليفعل ذلك، رغم كونهما عاشا وحكما البلاد في حقبتين زمنيتين مختلفتين ومتباعدتين، إلا أنهما تشابها في كثير من التفاصيل وكأنهما وجهان لعملة واحدة، فسجَّل التاريخ ما فعلاه بليبيا، التي لازالت باقية رغم رحيلهما وانتهاء دورهما، وفي هذا درسٌ مستفادٌ في كل مكان وزمان ولكل الطغاة!
يقول التاريخ الذي لا يُظلم عنده أحدٌ، إنَّ رودولفو قرسياني حصل على رتبة ملازم في إحدى كتائب الجيش الإيطالي في اليوم الأول من شهر مايو 1904م وبدأ نجمه يسطع عندما أصبح آمر فوج الرماة الأول في الجيش الإيطالي، ومعمر القذافي أيضًا عرفه العالم كله وهو برتبة ملازم، عندما انقلب على الملك إدريس السنوسي، وذلك في أول يوم من شهر سبتمبر 1969.
تمت ترقية غرسياني لرتبة عقيد، ليكون أصغر عقيد في الجيش الإيطالي في عشرينات القرن العشرين، وتولى العقيد غرسياني قيادة القوات الإيطالية في ليبيا، ومعمر القذافي تمت ترقيته أيضًا لرتبة عقيد ليكون هو الآخر أصغر عقيد في الجيش الليبي في ستينات القرن العشرين وليكون رئيسًا للجمهورية العربية الليبية.
تشير بعض المراجع إلى أنَّ الطليان كانوا يسمون رودولفو غرسياني «أسد الصحراء» وكان هذا الاسم من أحب الأسماء إليه.
على الجانب الآخر كان معمر القذافي يحب أنْ يناديه الغرب بـ«رسول الصحراء»، وقد ذكر ذلك أكثر من مرة في مقابلاته الصحفية، ونشرت الصحفية الإيطالية «ميريلابيانكو» كتابًا أسمته «القذافي رسول الصحراء»، مما أثار جدلاً طويلاً في تلك الفترة لدرجة تم معها تكفير القذافي بسبب هذا الكتاب.
تشير بعض الدراسات إلى أنَّ غرسياني أثناء تدخل إيطاليا في الحبشة، كان مهتمًا جدًّا بأنْ يكون ضمن جيشه مقاتلون صوماليون وإريتريون وبعض من الليبيين وهوسه بتجنيد الأطفال والمراهقين منهم، خاصة من دور اليتامى والزج بهم في أتون الحرب التي خسرها، ولا يحتاج الأمر لتأكيد أنَّ القذافي فعل تقريبًا نفس ما فعله غرسياني ثناء حربه وتدخله في تشاد من قيامه بإرسال طلبة الثانويات، واستعانته في مواجهته الأخيرة ضد مَن عارضه من الليبيين بالمراهقين من دور اليتامى وبالمرتزقة أيضًا فخسر حربه في تشاد، ثم خسر حياته في حربه ضد شعبه.
هناك كثيرٌ من المصادر التاريخية التي أشارت إلى قسوة غرسياني وقمعه لمعارضيه وخصومه، وقد وصل الأمر لاستخدامه الغازات السامة، خاصة غاز الخردل لقمع المتمردين الأحباش، كما استخدمه أكثر من مرة في حروبه مع عمر المختار ورفاقه بالجبل الأخضر، ويكرر التاريخ نفسه وإنْ كان بشكل مختلف عند استخدام معمر القذافي الغازات السامة في الجبل الأخضر أيضًا ولكنها ضد تنظيم ليبي معارض له.
غرسياني كان شديد الكره لبرقة وأهلها، وقد عانت منه الويلات بسبب تمردها عليه، وقد حاول بشتى الطرق إبادتهم بكل قسوة ووحشية وكان يراقب عن بُعد عمليات الشنق للمجاهدين منهم، وهذا ما فعله القذافي مع أهل بنغازي حيت بقت المدينة طيلة سنوات حكمه تعاني إهمالاً شديدًا، ويقال إنَّ القذافي أيضًا كان يستمتع وهو يراقب عمليات الشنق لبعض معارضيه من إحدى الشرفات القريبة من منصات الإعدام.
ذكر غرسياني في كتابه «برقة المهداة» الذي يصف فيه ما فعله في ليبيا أنَّ من إنجازاته فيها إنشاءه المحاكم الطارئة، ونصبه المشانق لليبيين، والتمثيل بمعارضيه فيتركهم على أعوادها أيامًا وبناءه السجون وإنزال أشد العقوبات لمَن لا يقف تحية له وللعَلم الإيطالي، وهذا تقريبًا لا يختلف كثيرًا عما فعله معمر القذافي بمعارضيه، فقد أنشأ المحاكم الثورية ومحاكم الشعب الصورية وكان لابد من أنْ يقف الجميع لراية الفكر الجماهيري.
معمر القذافي كان يهدم بيوت معارضيه، فقد هدم بيت عدد من المناضلين مثل هدمه بيت عبد الحميد البكوش رئيس الوزراء في العهد الملكي في مدينة غريان البعيدة عن طرابلس العاصمة بحوالي ثمانين كيلو مترًا، تمامًا كما فعل غرسياني الذي أمر بهدم بيت المناضل مختار كعبار في قرية تغرنة بمدينة غريان، باعتباره زعيمًا للمجاهدين في غريان، كما أنَّ بيت آل كعبار كان مخزنًا للمؤن والأسلحة التي يواجهونه بها.
تقول المصادر التاريخية إنَّ غرسياني نجا من الكثير من المحاولات التي استهدفت اغتياله، وأكثرها، خطورة كما ذكر في كتبه، تلك المحاولة التي تعرَّض لها في إثيوبيا وفيها رمى أحد الإريتريين قنبلة يدوية أمام قدميه ولم تنفجر، تمامًا مثل ما حدث مع محاولة اغتيال معمر القذافي، وتناقل هذه المحاولة كثيرٌ من محطات التلفزيون العالمية، وفيها قيام أحد المعارضين لنظامه والمنضمين لأحد التنظيمات المسلحة برمي رمانة على موكبه ولم تنفجر.
وأخيرًا يتشابه الطاغيتان (غرسياني والقذافي) في أنَّ كليهما كان خطيبًا مفوَّهًا ومولعًا بالكتابة وتأليف الكتب، وكذا ولعهما بمدح الشعراء لهما، وحرصهما على أنْ يتصدرا عناوين الصحف وكل وسائل الإعلام، وهذا مما لاشك فيه ديدن الطغاة في كل مكان وزمان.
“الوسط” الليبية