في البدء كانت الكلمة، والكلمة الواحدة قد تزلزل الطغيان، وتزعزع الجبال الراسية بالظلم والبغي والعدوان، والكلمة الشجاعة مقدمة للفعل الذي قد يحول مجرى التاريخ، وفي الدورة الـ 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة، خرج الملك محمد السادس عن مألوف القادة والرؤساء والملوك الذين يتزعمون المجتمع الدولي، في خطاب تاريخي أمام 193 بلدا عضوا بالمنتظم الأممي، مجاهرا بمحاسبة الغرب على سياسة الحيف والزيغ والاستغلال التي سام ويسوم بها بلدان الجنوب، بلدان العالم المستضعف، المستلب، المقهور والمهان، والذي يتواجد العالم الإسلامي والعربي في قلبه محاطا بأفريقيا وفقراء آسيا وأمريكا اللاتينية.
ولأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة، يتجرأ قائد عربي على الصدع بكلمة الحق في وجه الإستكبار الغربي، نسفا لتقاليد الصمت والنفاق والاستخذاء، والممالئة على الجور والبهتان، الذي دأبت عليه الزعامات العربية والأعرابية، في المحفل الأممي. ويتجرأ محمد السادس في وقت باتت معه أمة العرب في حكم المتلاشي والمتهالك والبائد، لما أصبحت عليه معظم دول العرب، أطلالا من الماضي، وخرائب تنعق على أنقاضها غربان الفوضى والإرهاب والاقتتال، والاغتصاب العسكري، والمصير المجهول، وأصبح المتبقي منها، أسير الإرادة الغربية، يشتري عمره السياسي، بالإغراق في الارتهان للمخططات الغربية التدميرية للبلاد العربية، ويفتدي بقاءه على قيد النجاة، بإحراق الذات السياسية، وزرع الفتن بين جيرانه، والرضا بربقة العبودية السياسية، والرسف في أغلال السيادة الغربية.
واقع رهيب، يعز فيه السند والردء والنصير، ولا يغري بمواجهة القوى العظمى، قوى الاستعمار والاستكبار والترف، والتعالي على الشعوب المقهورة، ولو بكلمة، ناهيك عن أن تكون الكلمة ثورة في وجه السياسات الغربية التي صارحها الملك بما أرهقت به العالم المستضعف، بالعبث بأمنه وسيادته، وبما شلت به حركية نهوضه ولحاقه بركب التنمية والتحرر والتقدم.
وقد وضع الخطاب الملكي الأممي، الغرب أمام مسؤوليته التاريخية، فيما يحدق بالسلام الأممي من مخاطر وكوارث ودواهي، قد تأتي على الأخضر واليابس، ولا تصيبن الجنوب وحده دون الشمال، جراء ما يجازف به هذا الغرب، من محاولة اقتلاع ثقافة الآخر، وما يصر عليه من اجتثاث الشعوب من جذورها وأصولها، وإخضاعها للنموذج القيمي الغربي الواحد، واشتراط الانسلاخ من الذات، ثمنا للدعم و المساندة، وضخ المساعدات.
وقد فتح الخطاب الملكي أعين الغرب على ما قد يعتبر إغناءً لفلسفة الفكر السياسي الدولي، وتذكيرا بالمبادئ الأولى التي أرست ركائز المنظومة الأممية عند انطلاقها قبل 69 عاما، بعرض النظرية الاستراتيجية للسلام، القائمة على معادلة : توازن الحضارات وما يتولد عنه من تفاعل إيجابي بين الثقافات، شرط ضروري ودعامة أساسية، لاستتباب الأمن والسلام بين الأمم، في الشمال وفي الجنوب، وفي الكون والوجود.
وأن انهيار السلام نتيجة حتمية لالتهام الحضارات وافتراسها، من قبل التغول الغربي. وفيما العالم، تتباكى دوله، كل يشكو آلامه، وينكؤ جراحاته، اختار المغرب أن يهز الضمير العالمي، تجاه المصير المجهول الذي يطارد البشرية، جراء ترك بلدان الجنوب، ترزح تحت وطأة مخلفات الاستعمار الغربي، الذي نهب الثروات، وأباد الشعوب في أرواحها وفي ثقافاتها، ومزق البلدان أعراقا ومللا ونحلا. وفي غيبة الكلمة الإفريقية الصارخة، والموقف الإفريقي الضاغط، انتصب الملك محمد السادس، محاميا عن أفريقيا الضائعة، مخاطبا المتنفذين في المجتمع الدولي من قادة الغرب، في مرافعة رصينة، دقيقة، ونفاذة، وبليغة أبلغ ما يكون عليه تشريح الداء ووصف الدواء، في منهجية تنسجم والخط التاريخي الموغل قدما ورسوخا، الذي حكم الارتباط المغربي الإفريقي، منذ الأزل.
فقد كان المغرب معبر الحضارة الإنسانية، والإسلامية إلى أفريقيا، وكان سلاطين المغرب عبر العصور والحقب، حماة لإفريقيا، سواء في الزمن الذي كان المغرب يحكم العالم القائم بأسره، في عهد المرابطي يوسف بن تاشفين أو في عهد الموحدي عبد المومن بن علي الكومي، أو سواء في الأزمنة التي كان المغرب فيها من الدول العظمى، خلال حكم المرينيين أو السعديين أو في بداية العلويين.
وهو ذات المنهج الذي سار عليه الملك محمد الخامس، الذي طالب قادة العالم الحر من الحلفاء المجتمعين خلال الحرب العالمية الثانية في مؤتمر آنفا سنة 1943، روزفلت، وتشرشل، وديغول، طالبهم بتمكين الشعوب المستعمرة، والمغرب واحد منها، من حقها في التحرر والإنعتاق والسيادة، وحاججهم بالميثاق الأطلسي الذي وقعته الدول العظمى سنة 1941، والذي ينص في بنوده على حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ولضمان وعد الغرب الاستعماري بمنح الشعوب استقلالها، ساهم محمد الخامس في حسم معركة انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية ودول المحور، بجيش قوامه 85 ألف مجند مغربي، قتل منهم خمسة عشر ألف رجل، أظهروا للعالم شجاعة فريدة نادرة، بشهادة الجنرال دوكول، قائد ومحرر فرنسا من الاحتلال الألماني، والذي خاطب الملك محمد الخامس، إشهادا للتاريخ، بقوله : ” لولا جيشك لما تحررت فرنسا “.
ومن أجل تحرر أفريقيا من الاستعمار الغربي، وانتزاع باقي شعوبها السيادة والاستقلال، احتضن محمد الخامس المؤتمر التحضيري لقمة الدول الإفريقية المحررة، وذلك سنة 1961 بالدار البيضاء، قصد استكمال إفريقيا مهام تحرير شعوبها، وفي 1963 احتضن الملك الحسن الثاني، تأسيس مؤتمر قمة الدول الإفريقية، والذي تسمى بالوحدة الإفريقية، بل إن الحسن الثاني عين وزيرا في حكومته، مكلفا بالشؤون الإفريقية، وهو الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي اضطلع بأدوار التمويل والتسليح والتدريب العسكري لحركات التحرر الإفريقية، ودعم ثورة الشعوب الإفريقية على الاستعمار الغربي، وهو الدور الذي أشهد عليه العالم، في خطابه التاريخي، الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا، حينما أوقف الدكتور الخطيب بجانبه، وعلى سمع العالم وبصره، معلنا أمام وسائل إعلام الأرض كلها: “أن جنوب إفريقيا مدينة لهذا الرجل في معركة تحريرها ونيل استقلالها”.
في العرض الثوري الذي خرج به محمد السادس على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لم يتوقف عند تبكيت ضمير الغرب ووخزه بالحقائق، ومحاججته ومواجهته بحيفه وأخطاءه، بل إنه تقدم كثيرا إلى الأمام، لردم الهوة بين الشمال والجنوب، وذلك ببسط مقترح البديل الإستراتيجي في التعاون الدولي، واضعا أمام العالم خطة الشراكات التكاملية، من أجل التنمية، بين من يملك الإمكانيات ومن يملك الثروات، بين الرأسمال البشري والرأسمال القيمي، والرأسمال المادي.
فهل سينصت الغرب إلى صوت الحقيقة والحكمة إذا ما قدمت من حكماء الجنوب؟
*عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة/”دنيا الوطن”