أقدم ناشط أمازيغي في المدة الأخيرة، على حرق صورة رئيس الحكومة، عبد الاله بنكيران، على مرأى ومسمع من الناس، أمام مقر حزب العدالة والتنمية” في مدينة أكادير.
ومن الواضح أن اختيار مكان الاحتجاج المستفز ضد شخص يمثل الارادة الشعبية، مهما يكن الموقف من سياسات حكومته، ليس مجرد مصادفة أملاها تواجد صاحب الفعل المستهجن في المكان المذكور، بل لربما هو تصرف متعمد، فكر فيه مرتكبه، معبرا عن قصد مبيت في نقل هذ الشكل من الاحتجاج إلى حاضرة جهة سوس، وهي التي تعتبر، وهنا المفارقة، إحدى قلاع “البيجيدي” حيث منحه سكانها نتيجة مشرفة خلال الاستحقاقات الجماعية الأخيرة وقبلها التشريعية.
لم يطلب أحد من الناشط أن يتجشم عناء السفر للقيام بفعل أخرق، وكأن “سوس” بكامل قبائلها ومدنها ونخبها، لم تجد من يرفع احتجاجها السلمي إلى رئيس الحكومة، ليعتذر الأخير، إن كان قد أساء فعلا، أو خانه لسانه.
كان من الممكن التغاضي عن هذه الواقعة التي تبرأ منها فاعلون أمازيغيون، يميزون بين الاحتجاج المشروع وبين الرعونة والغوغائية؛ على اعتبار أن مشهد الإحراق، يعيد إلى الأذهان اشكالا بائدة من التعبير عن الرأي المخالف؛ لم يعد يستعين بها حتى المقهورون من طرف أنظمة مستبدة أو من هم واقعون تحت سلطات الاحتلال والاستيطان كحال الشعب الفلسطيني الذي يواجه يوميا ألة العنف الاسرائيلي الجاثمة على صدره منذ ما يقرب من نصف قرنوالذي قام المحتج المغربي بزيارة جلاديه.
لم يعد الغاضبون الناقمون يؤججون نيران الاحتجاج إلى درجة إحراق الصور والرايات بشكل بدائي، مثلما اعتاد على ذلك اليسار الجذري في الغرب خلال العقود الماضية، في فترة الحرب الباردة.
تم استبدال الوسيلة في زمن الحرية وحقوق الإنسان والعولمة، وانتفاء الحدود، بصيغ مبتكرة ومتطورة، معبرة أكثر عن الهدف السياسي المقصود.فمواقع التواصل الاجتماعي وحدها باتت الأداة القادرة والفعالة لمحو أو تلطيخ صورة من يحكم عليه “الفايسبوكيون” اليقظون بتجاوز القانون وارتكاب ما يرونه خطأ جسيما؛ وبالتالي لم يعد ضروريا أن يوقف محتج ما حركة المرور في الطريق العام مزودا بعلب من عود الثقاب لينفذ قراره، بينما من جمعهم أو اكتراهم يصفقون ويهللون له تمجيدا لبطولته.
وبطبيعة الحال ليست مدينة أكادير،هي القدس المحتلة مثلما لا تليق بأي شكل من الأشكال مقارنة بنكيران بنانتنياهو، حتى يستحق الأول تلك المعاملة الخارجة عن الاعراف الديموقراطية وأخلاق المغاربة.
لم يصل رئيس الجهاز التنفيذي الى السلطة بإحراق صور مخالفيه في الرأي بل أجلسته، حيث هو، صناديق الاقتراع فوق الكرسي الذي يمارس من خلال سلطة حدد صلاحياتها دستور المملكة الذي صادق عليه المغاربة بنسبة عالية دون إكراه.
ومن الواضح أن الناشط “المحتج” ما كان ليتجشم عناء التنقل إلى أكادير، لو لم يكن مدفوعا بأجواء الشحن الرائجة، تحث عليه وتدعو له خطابات العنف اللفظي.
إقرأ أيضا: بعد إحراق صورته ..لسان حزب الاستقلال يتضامن مع بنكيران ويدافع عنه
باتت الشتائم في المدد الاخيرة، السمة المهيمنة على النقاش السياسي العمومي في المغرب، بل إن الإعلام، وهو السلطة الرابعة والرادعة، أغرته المعارك الطاحنة بين “داعس والغبراء” إحياء لتقاليد عهود الجاهلية، فانطلق بدوره يصب الزيت على النار، بحثا عن الإثارة والخروج عن التغطيات الروتينية.
عنف لفظي يتحول بسرعة من التجريح الشخصي إلى مستوى أفعال عدوانية ملموسة، مثل تلك التي أقدم عليها ناشطون مزعومون قبل صاحبنا وفي سياقات مختلفة وأمكنة أخرى.
أصبح السب والشتم وعبارات الكراهية، على لسان بعض التنظيمات، بهارات تعطي مذاقا مهيجا لخطاب الاحتجاج الاجتماعي والسياسي في المغرب. لا يتورع عن اللجوء إليها والنهل من معينها حتى نواب الأمة وقادتها السياسيون وزعماؤها النقابيون ؛فما بالك بالعاطلين المتظاهرين من أجل الشغل والادماج الفوري في الوظيفة العمومية !.هؤلاء بدورهم يخرجون من أفواههم قذائف نارية تنضح بالعدوانية ضد الحكومة والبرلمان ومن يجلسون تحت قبته؛ تنعدم فيها أدنى شروط اللياقة واحترام الأخر، مهما خالفك الرأي، كما تبخس تلك الاصوات العالية مؤسسات الدولة التي يفترض أنها ملاذ للجميع، رغم ما عليها من مؤاخذات وانتقادات.
فإذا ما استمرت حملات التهجم على العدالة والتشكيك في أحكام القضاء والتحريض على التنصل من تطبيق القانون واهانة قوات الامن العمومي، فليس من مبرر لذلك غير الدعوة إلى “السيبة” الجديدة.
فإلى من سنحتكم لأنصاف بعضنا من تجاوزات بعضنا؟.
صحيح، يتحمل المسؤولون عن الشأن العام قسطا مهما من المسؤولية فيما انزلقت اليه ممارسات الاحتجاج في هذا البلد الأمين. لقد ورثو، الجدد منهم والمخضرمون، عادات صم الآذان عن المطالب المعروضة في ساحات الاحتجاج. يعمد المسؤولون إلى تجاهل تام لمعاناة المتضررين وتظلماتهم. وحينما تتحرك قوات الامن استجابة لنداء استغاثة، يكون وقت العلاج قد فات والاحتقان وصل درجته القصوى.
هكذا تصدر ردود أفعال قوية من الجانبين، تتسبب في مصادمات واشتباكات عنيفة تخلف ضحايا بين الجانبين، تسيئ إلى صورة الديموقراطية بلدنا، وخاصة حين يتم تضخيمها إعلاميا في الخارج من طرف جهات لها أجندات وحسابات مع المغرب.
ما يدعو إلى القلق أن ينتقل العنف والتطرف إلى الحرم الجامعي وتتحول باحات الكليات والمعاهد العليا إلى ميادين للمبارزة بالسيوف الطويلة والمدى الحادة والعصي الغليظة، فتسيل الدماء ويسقط ضحايا، كما حدث أخيرا في جامعة مراكش، وقبلها في جامعات اخرى. أي منزلق هذا الذي تنحدر إليه البلاد انطلاقا من مؤسسات التكوين والتعليم والبحث العلمي؟
لقد عرف المغرب صراعا سياسيا واحتقانا اجتماعيا في العقود الماضية، كانت المؤسسات التعليمية وخاصة الجامعية مسرحه الطبيعي، لكن الخلاف بين التكتلات الطلابية لم ينحدر نحو العنف الجسدي المسبب للموت إلا في العقود الأخيرة، نتيجة خلو الجامعات من أداة منظمة قانونية قادرة على تأطير نضالات الطلبة واحتجاجهم عبر قنوات التفاوض والحوار السلمي مع المعنيين.
لذلك كان منع”الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” بداية سبعينيات القرن الماضي، قرارا متسرعا، تحولت بعده الساحة الطلابية إلى سوق للمنازعات الإيديولوجية البالية ومرتعا لتبادل الاتهامات الثقيلة بين التكتلات الطلابية؛ فشكلت (الخلافات) الثغرة التي تسللت منها قوى ظلامية خادمة، لقاء أجر، لأجندات أجنبية.
وما يؤسف له حقا أن”القوى السياسية” المغربية بمختلف تجلياتها وأحجامها، تتحاشى، خوفا أو نفاقا، التعبير عن موقفها الصريح من تداعيات العنف الذي استوطن الشوارع وتمكن من الحرم الجامعي بل ان ذات القوى تنساق أحيانا وراء موسيقى الاحتجاج الصاخبة، سعيا منها وراء مكاسب سياسوية، ما يدفعها الى المغالطة والمطالبة بإجراءات وتدابير حكومية حيال ملف من الملفات العويصة دون ان تقدر كلفتها المالية وعواقبها السياسية.
لماذا؟ لكي لا يسجل الهدف حزب منافس!! سباق محموم يجر الى العنف بدل الحوار.
نعلم أن علم السياسة يحصر مهمة الأحزاب السياسية في تأطير المواطنين وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم ليتوسلوا إلى الأولى عبر القنوات الشرعية وبأسلوب الحوار الهادئ، بعيدا عن التصعيد والتشنج من هذا الطرف أو ذاك. فإذا فشل التفاهم أمكن الاحتكام إلى آليات وسيطة.
لا مفر والحالة هده من توجيه بعض النقد الى بعض الأحزاب والنقابات وحتى هيئات المجتمع المدني، كونها لا تحل خلافاتها الداخلية بالتي هي أحسن وبالأسلوب المتحضر لتكون قدوة بدل أن ينتهي الاختلاف، بالشقاق والانشقاق وإعلان القطائع.
ان واقعة أكادير، وهي نموذج للعنف الرمزي، تمهد وتشجع آخرين على ارتكاب شكل أعنف! لماذا لا نربط إذن بينها وبين مأساة جامعة مراكش؟ لا نعرف كل ملابسات الجريمة، سوى ان المتسببين فيها طالبان متعصبان لمواقفهما، مع وجوب التمييز بين القاتل والضحية.
هل من الجائز ان يوصف ما وقع في اكادير اولا وما تلاه في مراكش بأفعال يرتبها الفقهاء في خانة “ذهاب العقل” وفقدان القدرة على التمييز!!