في مثل هذا اليوم قبل أربعين عاما وبتوجيهات من الملك الحسن الثاني أنطلق ثلاثمائة وخمسون ألف مواطن مغربي في مسيرة سلمية نحو المناطق الصحراوية جنوب المغرب لاستعادتها للمغرب. جاءت الفكرة الإبداعية للملك الحسن الثاني في ظل أجواء متوترة بين المغرب والجزائر وموريتانيا بعد أن قررت إسبانيا إنهاء احتلالها لهذه المنطقة والانسحاب منها في عام 1975، حيث دعمت الجزائر جبهة البوليزاريو الصحراوية التي تشكلت قبل عامين من المسيرة وتعارض إعادة الصحراء للمغرب وتطالب بقيام دولة صحراوية، كما زعمت موريتانيا أن لها الأحقية في الصحراء وطالبت بضم الصحراء لموريتانيا – وتراجعت عن هذا المطلب فيما بعد – إلا أنه وبعد عرض القضية على المحكمة الدولية في لاهاي وإصدارها رأيا استشاريا أكد على وجود علاقات تاريخية بين المغرب والمناطق الصحراوية ـ قرر المغرب استعادة الصحراء بطريقة سلمية، فكانت المسيرة الخضراء التي شارك فيها مواطنون من كل مناطق المغرب ومن كل الشرائح الاجتماعية ومن كل الأحزاب بما فيها أحزاب المعارضة، فقد أجمع المغاربة على أن قضية الصحراء قضية وطنية لا يجوز الاختلاف حولها.
كان من حسن حظي أنني كنت طالبا في المغرب آنذاك وتابعت هذا الحدث التاريخي يوما بيوم، شاهدت وتابعت عبقرية الفكرة حيث كانت أطراف متعددة تريد توظيف قضية الصحراء لجر المغرب لحرب ومواجهات مسلحة سواء مع اسبانيا أو الجزائر أو موريطانيا أو مع سكان الصحراء، إلا أن الحكمة المغربية التي تراكمت عبر ألف ومائتي عام من وجود الدولة المغربية كانت حاضرة في كيفية تعامل الملك الحسن الثاني مع الحدث، فكانت مسيرة لم يحمل أفرادها إلا المصاحف وعلم المغرب وإرادة وطنية باستكمال ثورة الشعب والملك التي بدأت في عهد الملك محمد الخامس عام 1952، كما كان المغاربة ينظرون لقضية الصحراء كاستمرارية لحرب التحرير ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وأن الاستقلال الذي أُعلن عنه عام 1956 لم يكن ناجزا ما دامت الصحراء وسبته وميليليا والجزر الجعفرية خاضعة للاستعمار الإسباني.
لم تكن أهمية المسيرة الخضراء تكمن فقط في قدرتها على استعادة الأراضي الصحراوية ولا في سلميتها وتنظيمها، ولكن فيما نتج عنها لاحقا من إعادة صقل الوعي السياسي المغربي بأهمية الوحدة الوطنية وبالمخاطر التي تهدد الدولة المغربية.كانت الوحدة الوطنية التي تجسدت في المشاركين في المسيرة وفي توافق غالبية القوى السياسية على خوض معركة استعادة الصحراء منعطفا سياسيا أسس لمرحلة جديدة من العلاقة بين المؤسسة الملكية – المخزن – والقوى السياسية المعارِضة.
للمزيد: المسيرة الخضراء والوعي الجمعي للشعوب
إن كانت المسيرة الخضراء 1975 استعادت الصحراء فإن هزات ارتدادية تولدت لاحقا أنتجت مسيرات خضراء فيما يتعلق بإعادة صياغة العلاقة بين النظام والمعارضة. ففي نفس عام المسيرة 1975 قرر أكبر حزب معارضة وهو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية انتهاج الخيار الديمقراطي في العمل السياسي بعد سنوات من خيار المواجهة المسلحة ومن صدور حكم بالإعدام على رئيس الحزب وقيادات أخرى، وشارك الحزب وأحزاب يسارية أخرى لاحقا في كل الحملات الانتخابية، وفي عام 1984 نال الأمين العام للحزب آنذاك السيد عبدالرحيم بوعبيد منصب وزيرا بدون حقيبة، وفي عام 1984 أعلن الحزب عن رغبته في المشاركة في الحكم، وبعد الانتخابات التشريعية 1997 حيث فاز الحزب بالأغلبية تم تشكيل حكومة تناوب كان على رأسها السيد عبدالرحمن اليوسفي الأمين العام للحزب الاشتراكي الذي خلف السيد بوعبيد.
تواصلت المسيرة بل المسيرات الخضراء وخصوصا بعد اعتلاء الملك محمد السادس للعرش، فكل من يزور المغرب أو يتابع أخبارها يعترف بما ينجزه المغرب وبصمت، حيث شهد المغرب وما زال نهضة حضارية على كافة المستويات الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية والسياسية. ففي المجال الاقتصادي والتنموي يعرف المغرب نموا ملحوظا تشهد به المؤسسات الدولية فيما يتعلق بالتنمية والاستثمارات والسياحة، واجتماعيا زادت فرص العمل وتم تخطيط مدن جديدة كما ارتفعت أجور العاملين، وعلى المستوى السياسي استكمل الملك محمد السادس ما بدأه والده الحسن الثاني من مسلسل المصالحة الوطنية وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية لكل المواطنين والقوى السياسية، بالرغم من الهزات التي ضربت المنطقة العربية تحت مسمى “الربيع العربي”. وكما جرى في عام 1997 عندما فاز حزب الاتحاد الاشتراكي اليساري العلماني في الانتخابات مما أهله لتشكيل حكومة التناوب، فإن فوز حزب العدالة والتنمية المُصنف كإسلام سياسي في انتخابات 2011 أهله لتشكيل حكومة برئاسة زعيمه بنكيران.
وفي ظني أن المسيرة الخضراء كتجسيد لوحدة الشعب والعرش التي بدأت عام 1975 لم تتوقف بل مستمرة حتى اليوم ولكنها في كل فترة تأخذ أشكالا مختلفة حسب طبيعة المرحلة وتحدياتها. لا نزعم أن المغرب خلِّي من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولكن المهم أن كل المغاربة شعبا وملكا وحكومة وأحزابا، متوافقون ومتفقون على معالجة المشاكل ومواجهة التحديات بطريقة ديمقراطية حضارية، كما أن التجربة المغربية والتي نتمنى أن يتم استلهامها والاستفادة منها عربيا تؤكد على وطنية الأحزاب والقوى السياسية بغض النظر عن أيديولوجيتها، حيث يتم توطين كل الأيديولوجيات من منطلق أن الوطن أكبر من كل الأحزاب والأيديولوجيات.
*أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر – غزة/”ميدل ايست أونلاين”