تواصل سلسلة تربية النحل بالمغرب صمودها أمام التغيرات المناخية وتعاقب مواسم الجفاف؛ فضلا عن ارتفاع كلفة الإنتاج خاصة في السنوات القليلة الماضية. ورغم كل هذه التحديات القاسية التي فُرضت على مربي النحل، يواصل مهنيو القطاع نشاطهم وكلهم أمل في أن تجود السماء بقطرات الغيث.
موقع “مشاهد24” حلّ بمنطقة صخور الرحامنة والتقى بالنحال محمد الغالمي، رئيس “اتحاد تعاونيات مناحل الصحراء” و”رئيس تعاونية عسل الشفاء الرحامنة”، للوقوف عن كثب على التحديات المتعلقة بتربية النحل في “زمن الجفاف”.
النحال محمد.. نموذج للتحدي
بزيّ يوفر له حاجزاً فعالاً ضد لدغات النحل وقبعة مصنوعة من مواد متينة تحتوي على قناع شبكي يغطي وجهه، يحرص النحال محمد الغالمي على مراقبة منحله الواقع بمنطقة صخور الرحامنة وتتبع أدق التفاصيل.
يقول هذا الرجل الخمسيني وابتسامته لا تُفارق محياه؛ إنه يمارس نشاطه أزيد من ربع قرن دون كلل أو ملل ويحس بسعادة غامرة أثناء تفقد خلايا النحل التي تُنتج له أجود أنواع “الذهب الحلو”.
النحلة بالنسبة إلى محمد ليست بالحشرة العادية، وإنما هي “معجزة ربانية” ألهمته منذ أن كان يافعاً. هذا العشق الذي لم يستطع مقاومته دفعه في تلك الفترة إلى اقتناء مجموعة من الكتب والمراجع للتعرف على أسرار النحل وعالمه المدهش.
يقول محمد لـ”مشاهد24″: “وجدت شغفي في تربية النحل وأنا في مقتبل العمر؛ فهذه المهنة ليست كباقي المهن، إذ تتطلب قدراً كبيراً من المثابرة”. مشيراً إلى أن قطاع تربية النحل بالمغرب “يواصل صموده أمام التغيرات المناخية”.
واستطرد وهو يعيد شريط البدايات التي كانت سنة 1998 بمنطقة صخور الرحامنة، “تعلّمت أيضاً الحكمة والصبر في ظل تعاقب مواسم الجفاف وارتفاع كلفة الإنتاج خاصة في السنوات الماضية؛ إلى جانب التحديات الأخرى المرتبطة بالأمراض التي تهدد خلايا النحل من حين لآخر”.
يسعى محمد والذي استفاد من دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ودعم وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، إلى التكيّف مع التغيرات المناخية وإيجاد آليات مبتكرة للتعامل معها كي يواصل مسيرة تنمية الخلايا والإنتاج؛ وبالتالي الحفاظ على المرتبة (classe A) التي وصلت إليها تعاونيته. مؤكداً أن دور تربية النحل ليس مقتصراً فقط على إنتاج العسل وإنما المساهمة في الحفاظ على التنوع البيولوجي؛ وبالتالي المساهمة في تعزيز الأمن الغذائي بالبلاد.
وأكد هذا النحال أن “تربية النحل من الأساسيات التي تضمن استمرارية الحياة، بسبب الأدوار التي تلعبها النحلة في الحقول والمزارع”.
وتؤكد وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية، أن قطاع تربية النحل يلعب دوراً أساسياً في تلقيح النباتات، سواء الطبيعية أو المزروعة، مع تأثيرها الفعّال في تحسين كمية وجودة الإنتاج النباتي، لا سيما غرس الأشجار المثمرة وزراعة الخضراوات والزراعات الصناعية.
الجفاف يُغير معادلة تربية النحل
الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال، بعد استراحة قصيرة رافقنا هذا الرجل الخمسيني في جولة داخل منحله الشاسع القريب من منزله المتواضع، وقبل ذلك ارتدينا زيّاً يحمينا من لدغات النحل.
بمعنويات مرتفعة يفتح النحّال محمد إحدى الصناديق ويقول متفائلاً: “واخا الجفاف والأمراض ولكن باقا البركة”. وبالنظر إلى واقع الحال، يؤكد ذات المتحدث “طموحاتي كبيرة جداً رغم التحديات المذكورة”.
تبتدأ السنة النحلية كما يوضح محمد خلال شهر أكتوبر من كل سنة بعملية “التشْتيّة”، والتي يتم فيها معالجة المشاكل الصحية عند النحل وكذا الخصاص الذي قد تعاني منه الخلية، بعدها يتم المرور إلى مرحلة تنمية الخلايا لإعدادها في نهاية المطاف لمرحلة الإنتاج.
وفي ظل التحديات المناخية اختلت هذه المعادلة وزادت التكاليف، يفسر المتحدث “في السابق كان أغلب النحالة يقضون فترة “التشْتيّة” قرب مناحلهم دون اللجوء إلى الترحال، ولكن في ظل تعاقب مواسم الجفاف أضحى مربو النحل يضطرون للترحال المستمر لقضاء فترة “التشتيّة”؛ من خلال البحث عن أماكن توفر المياه والموارد الطبيعية ما زاد من تكاليف إنتاج العسل”.
وأردف شارحاً: “انطلاقا من شهر نونبر وإلى غاية شهر فبراير نراقب المنحل ونقوم بالتدخلات اللازمة لمعالجة الأمراض أو إيجاد بعض البدائل الضرورية لتربة النحل؛ سواء من خلال تغيير المناطق أو إيجاد بدلائل لحبوب اللقاح والرحيق”، لافتاً أن كل نحّال يتبع أسلوبه في تربية النحل؛ لكن يبقى الهدف واحداً هو تحويل الخلايا العادية إلى خلايا مُنتجة.
وزاد محمد مبتسماً: “في السنوات الأخيرة أكثر من يتابع النشرات الجوية هم النحالة”، قبل أن يضيف “الكل يبحث عن المناطق التي تشهد تساقطات مهمة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه”.
واستطرد وهو منشغل بتفقد إحدى الخلايا التي وضع فوقها ما يُسمى بـ”الكانْدي” أي بديل حبوب اللقاح: “كما قلت سابقاً تربية النحل ليست كباقي المهن؛ إنها -“بلْية وهواية”- تُجبرك على الاستمرار مهما كانت الظروف”.
زهرة الصبّار.. “الكنز المفقود”
يصف هذا النحال زهرة الصبار بـ”الكنز المفقود” في منطقة صخور الرحامنة، ثم أردف متحسراً “جميع سلاسل الإنتاج تأثرت بفقدان زهرة الصبار، هذه الأخيرة كانت لها فوائد عديدة لسلسلة تربية النحل”.
وأشار محمد إلى أن “أغلبية العاملين بالقطاع الفلاحي خاصة النحالين لم تكن لهم دراية بفوائد زهرة الصبار إلا عندما فقدوها بسبب عوامل مرضية ومناخية”. وفق تعبيره.
واستطرد موضحاً “فترة إزهار نبتة الصبار تتعدى الشهرين؛ وهو أمر مناسب لتربية النحل، كما أن زهرة الصبّار ثنائية؛ أي تنتج الرحيق وأيضا حبوب اللقاح في آن واحد وبوفرة، وهي زهرة نموذجية لتنمية خلايا النحل”.
يتوفر هذا النحال – الذي يشتغل بعزيمة كبيرة رغم التحديات – على منحل شاسع قسمه إلى نصفين، الأول يشتغل بإيقاع طبيعي. أما الثاني، فيضم خلايا ضعيفة يشتغل محمد بكدّ وجدّ لتقويتها.
وإلى جانب هذا المنحل الواقع بمنطقة صخور الرحامنة، يضع محمد عشرات الخلايا في مناطق متفرقة بالمملكة، مثل: مشرع بن عبو، وأزمور، وبوسكورة، وضواحي مدينة سيدي إفني وغيرها.
ويتوفر المغرب على مؤهلات كبيرة في مجال تربية النحل بالنظر إلى موارده الطبيعية المتنوعة، خاصة غابات الأوكاليبتوس، والزراعات الصناعية، والنباتات الجبلية الطبيعية مثل الزعتر، الدغموس، إكليل الجبل وغيرها.
وبحسب وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، أصبحت تضم سلسلة تربية النحل بالمغرب أزيد من سبعة أصناف مرمزة من العسل: عسل الزقوم (تادلة – أزيلال)، وعسل باخنو (جبل مولاي عبد السلام )، وعسل الدغموس (الصحراء، جهة كلميم واد نون، جهة سوس- ماسة)، وعسل الزنداز (فاس-بولمان)، وعسل الزعتر (سوس- ماسة) وعسل أزير (الشرق).
تحديات من نوع آخر!
لا يمكن حصر التحديات التي تواجه “النحالين” بالمغرب في خانة الظروف المناخية فقط، وإنما أيضا في تعدد الوسطاء وسلوكيات بعض التجار الذين يبيعون العسل “المغشوش” على أنه عسل طبيعي. بحسب محمد الغالمي.
وأضاف المتحدث شارحاً “بعض التجار – دون تعميم – يستغلون قلّة وعي بعض المستهلكين ويعرضون لهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي باقات تضم أنواعا مختلفة من العسل؛ إضافة إلى مجموعة من الهدايا مثل أملو اللوز، وزيت الأركان، والزعفران وغيرها، وكل هذا بأثمنة بعيدة عن الواقع”، قبل أن يستدرك باستغراب شديد: “للأسف هذا الأمر نشاهده أيضاً في بعض الأسواق والمعارض؛ ما يُفسد مبدأ المنافسة”.
طموح الوصول إلى الأسواق الأوروبية
ما يُنتجه محمد من عسل والذي يخضع لمراقبة مصالح المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (أونسا)، يشق طريقه في تجاه جل ربوع المملكة؛ حيث يمتلك مجموعة من الزبائن الأوفياء، خاصة في العاصمة الاقتصادية مدينة الدار البيضاء؛ مكان تواجد مقر تعاونية “اتحاد مناحل الصحراء”.
ورغم كل التحديات، يطمح محمد إلى أن تصل منتجاته من العسل إلى الأسواق الأوروبية، مشدداً على أن العسل المغربي يتميز بجودة عالية. قبل أن يستدرك “أعددنا جل الوثائق اللازمة للولوج إلى عالم التصدير كي نُعرّف الأوروبيين على جودة عسلنا ومناحلنا”.
وتم خلال الدورة الـ16 للملتقى الدولي للفلاحي بمدينة مكناس، الإعلان عن فتح سوق الاتحاد الأوروبي أمام واردات العسل المغربي، وذلك بعد إدراج المغرب في فبراير 2024 ضمن قائمة البلدان التي يمكن استيراد العسل منها إلى الاتحاد الأوروبي.
وبهذه الفرصة الجديدة، سيتمكن مربو النحل المغاربة على غرار محمد الغالمي ابن منطقة صخور الرحامنة؛ من الوصول إلى أكبر سوق للعسل في العالم، والاستفادة من الفرص الاقتصادية الكبيرة، وسيتمكن المستهلكون الأوروبيون من اكتشاف العسل بنكهات جديدة بفضل ثروة المغرب الطبيعية.
تربية النحل.. أدوار اجتماعية واقتصادية
يلعب قطاع تربية النحل دورا اجتماعيا واقتصاديا هاما، إذ يشكل مصدر دخل إجمالي أو جزئي بالنسبة لأزيد من 000 36 نحال موزعين في عدة مناطق بالمغرب، حسب إحصاءات وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية سنة 2019.
وتتميز سلسلة تربية النحل المغربي بتعدديته الجهوية، فضلا على تنوع النكهات وطرق الإنتاج.
وبحسب محمد الغالمي، فرغم بساطة قطاع تربية النحل بالمغرب إلا أنه يُساهم في إحداث فرص شغل دائمة ومؤقتة لمئات الأشخاص، كما يُساهم في نمو الاقتصاد الوطني.
الإحصائيات الرسمية لسنة 2019 تتحدث عن تطور ملموس لإنتاج العسل، والذي انعكس بشكل خاص على رقم المعاملات، إذ بلغ 1,1 مليار درهم، وعلى القيمة المضافة التي ناهزت 822 مليون درهم، إضافة إلى إحداث 2,45 مليون يوم عمل.
كل هذا التطور لم يأت بمحض الصدفة، وإنما بفضل “مخطط المغرب الأخضر”، الذي ساهم في تطور سلسلة تربية النحل؛ إذ ارتفعت عدد خلايا النحل بنحو 482+%، وذلك حسب إحصاءات وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات.
وأكد محمد أن هذا المخطط ساهم فعلا في ارتفاع عدد “النحالة” وعدد خلايا النحل بالمغرب، لافتاً أن وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، تدعم مهنيي القطاع بالأدوية والوسائل اللوجستية الكفيلة بمواصلة تنمية الخلايا وإنتاج “الذهب الحلو”، مبرزاً الدور الهام الذي تلعبه مصالح المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (أونسا) في هذا المجال.
الثقة.. مفتاح النجاح
ورغم الظروف المناخية الصعبة والتحديات المذكورة، حققت تعاونية “اتحاد مناحل الصحراء” لإنتاج العسل، نتائج إيجابية سواء على مستوى الانتاج أو التسويق، مما يفتح أمامها مستقبلا واعدا، وفق ما يؤكده نور الدين اللوزي، المسؤول عن الجانب التسويقي بالتعاونية في مدينة الدار البيضاء.
وأضاف اللوزي في تصريح لـ”مشاهد24″، أن منتجات التعاونية يتم تسويقها حالياً في عدد من المراكز التجارية، مشيراً إلى أن الإقبال على “العسل الحر” مازال موجودا وإن قلّ بعض الشيء بسبب ارتفاع مستوى التضخم.
وإلى جانب مختلف أنواع العسل “الطبيعي الحر”، تبيع هذه التعاونية منتجات عسل النحل مثل: حبوب اللقاح، وغذاء ملكات النحل، والعكبر، بالإضافة إلى خلطات خاصة بأمراض الجهاز الهضمي والتنفسي والعقم، يتم تحضيرها تحت إشراف دكتور مختص في الطب البديل. بحسب اللوزي.
وأردف “راكمنا سنوات من التجربة المليئة بالتحديات والإكراهات، واليوم تعاونية اتحاد مناحل الصحراء تحظى بالثقة لدى المستهلك”. مشيراً إلى أهمية المشاركة في المعارض من أجل التعريف بمنتجات التعاونية وتسويقها، إلى جانب الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة.