يتزايد الاهتمام بمعرفة عواقب التطورات المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط مع ظهور أزمات جديدة في المنطقة، بحسبانها من أكثر المناطق حيوية في العالم، وبالتالي فإنه ليس هناك سلام ورخاء للعالم بأسره دون استقرار وأمن منطقة الشرق الأوسط.ولا تزال المنطقة تمر بحالة اضطراب وعدم يقين، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورات الربيع العربي، في ظل معاناة الشباب من البطالة، وتدهور الأحوال الاقتصادية، والتنمية غير المتوازنة، مما أسهم في تأجيج التحديات التي تهدد استقرار المنطقة بأكملها.
وللتعرف على محركات التغيير فى منطقة الشرق الأوسط ومستقبلها، نشر المركز الأطلنطي دارسة أعدها ماثيو بوروز، مدير إحدى المبادرات الاستراتيجية بمركز برنت سكوكروفت للأمن الدولي، بعنوان “الشرق الأوسط 2020: دور الشرق الأوسط في تشكيل الاتجاهات العالمية”.
يتناول الكاتب في دراسته العواقب المحتملة على المدى المتوسط للتطورات الجارية في المنطقة، والعوامل المختلفة التي تؤدي إلى تغييرات هائلة، ويعرض سيناريوهات مستقبل الشرق الأوسط خلال فترة تتراوح بين خمس وعشر سنوات. فعلى الرغم من أن هذه الفترة أقصر من المعتاد، فإن العوامل الهيكلية في الشرق الأوسط في حالة تغير مستمر أكثر مما هي عليه أغلب المناطق الأخرى.
الشرق الأوسط في عين العاصفة
ستبقى منطقة الشرق الأوسط – كما أشارت الدراسة – واحدة من أكثر المناطق التي تشهد تغييرات كبيرة على مدى العقد القادم. ويذكر الكاتب أن المنطقة ستعاني حالة عدم الاستقرار، وربما تشهد صراعات إقليمية بسبب عدم الاهتمام بعملية التنمية، وتهميش بعض الفئات، وهو الأمر الذي دفع الكاتب إلى التحذير من حالة الانهيار التي تتعرض لها مقومات الدولة في المنطقة بصورة لم يسبق لها مثيل مع تفكك بعض الدول العربية مثل: سوريا، والعراق، ووجود توقعات غير مبشرة بالأحوال الاقتصادية، على الرغم من توقعات الجماهير بحدوث مزيد من الازدهار والنمو، منذ بدء ثورات الربيع العربي.
كما يسهم ارتفاع معدلات البطالة، وزيادة أعداد الشباب في زعزعة استقرار المنطقة. فعلى الرغم من أن الشباب من القوى الدافعة للتنمية، فإن ارتفاع معدلات البطالة سيؤثر حتماً فى استقرار المنطقة، بما فيها منطقة الخليج العربي الأكثر ازدهارا، كما ذكرت الدراسة.ويشير الكاتب إلى أن الاتجاه العالمي لارتفاع الأسعار يشكل خطورة كبيرة على الاستقرار السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من تحسن مستوى التعليم في بعض الدول، فإن تراجعه في المناطق الأخرى يشكل صعوبة للشرق الأوسط وسط المنافسة العالمية.
وتوقعت الدراسة استمرار نمط التنمية غير المتوازن في المنطقة بسبب الفجوة بين دول منطقة الخليج وبقية دول المنطقة. وفي هذه الحالة، ربما تدعي الدول المنتجة للنفط، والمؤمنة مالياً، قيادة المنطقة، على الرغم من تنامي الطلب الداخلي لديها على النفط.
محركات تغيير الأوضاع في الشرق الأوسط
ذكر الكاتب في دراسته مجموعة من العوامل كمحركات للتغيير في المنطقة، والتي تشمل ما يلي:
أولاً: ضعف الدولة في المنطقة، وذلك بسبب ضعف الحكومات، وسيطرة النخبة على السلطة، وتراجع القومية العربية، وقيام الثورة الإسلامية الإيرانية، وظهور الإسلام السياسي في عام 1979، فكانت الثورة الإسلامية بمنزلة اعتداء قوي على نظام الدولة العربية، وعملت على سد الفجوة الناتجة عن تراجع القومية العربية بسبب اعتماد طهران على تصدير الثورة، وبالفعل نجحت في ذلك، ودعمت تأسس حزب الله في لبنان منذ بداية الثمانينيات.
ولفتت الدراسة إلى أن الدول العربية ستستمر في ضعفها لفترة طويلة، بسبب الأوضاع في سوريا والعراق، فضلاً عن عدم قدرة مصر على توفير عمق استراتيجي لحلفائها في الخليج بسبب انشغالها بتحدياتها الداخلية.
ثانياً: الدور الإيراني: على الرغم من رؤية البعض أن إيران لا تدخل ضمن منظومة دول منطقة الشرق الأوسط – كما ذكرت الدراسة – فإنه لا يمكن لأحد إنكار نفوذ إيران في المنطقة، والذي من المرجح زيادته بشكل كبير في ظل ضعف الدول العربية.
وأشارت الدراسة إلى ضرورة تركيز إيران على التحديث والإصلاح الداخلي بسبب ما تركته العقوبات وراءها من آثار وخيمة على الاقتصاد الإيراني، أدت إلى انتشار حالة عدم الرضا بين شرائح واسعة من المجتمع الإيراني.
وألمحت الدراسة إلى أن التوصل إلى اتفاقية بين إيران والغرب سيمكن طهران من رفع معدلات النمو الاقتصادي، مما يخلق دينامكية إيجابية جديدة. وفي المقابل، إذا لم تتوصل إيران إلى اتفاقية مع الغرب، فإن ذلك سيقضي على أي سيناريو متفائل بمستقبل الشرق الأوسط. وفي كلتا الحالتين، فإن إيران هي المحرك الرئيسي لمستقبل المنطقة، كما ذكرت الدراسة.
ولفتت الدراسة إلى أن مسار البرنامج النووي الإيراني يعتمد على زيادة أصوات المعتدلين، مدللا على ذلك بنتيجة انتخابات 2013، ودعم الناخبين الإيرانيين لروحاني، وتفضيلهم للنمو الاقتصادي على حساب استمرار البرنامج النووي.
ثالثاً: مستوى النمو الاقتصادي: ساءت الأوضاع الاقتصادية في المنطقة منذ بدء الربيع العربي في أواخر ديسمبر 2010. وبدأت بعض الاقتصادات العربية في التحسن في عام 2014، ولكن من غير المتوقع أن يحدث تطور كبير على مدى السنوات الخمس القادمة، كما ذكرت الدراسة.
وتشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن متوسط النمو الاقتصادي في الدول العربية سيكون أقل من 4% في عام 2014، وسينمو بنسبة تتراوح بين 2.8% في 2014 و3.6% في 2016. وعلى الرغم من ذلك، فلا يزال معدل النمو الاقتصادي أقل بكثير مما كان عليه في عام 2010 قبل الربيع العربي، حيث كان 4.6%. كما أشارت الإحصاءات إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي ستحقق أعلى معدل للنمو اقتصادي في المنطقة، ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد هناك بنسبة 4.4% في 2014، بعدما كان 3.7 في 2013.
وفي هذا الإطار، أشارت الإحصاءات إلى تأثير الاكتشافات النفطية الأمريكية فى صادرات النفط الخليجية، مما يحتم على الملكيات الخليجية ضرورة تنويع مصادر اقتصادها. وتسهم البطالة بشكل كبير في سوء الأوضاع الاقتصادية العربية، حيث يصل معدلها إلى 27.2% في الشرق الأوسط، طبقاً لإحصاءات منظمة العمل الدولية ، فهي ضعف معدل البطالة العالمي، وهى النسبة الكبرى في العالم.
ويعد توفير فرص عمل في القطاع الخاص تحدياً رئيسياً. ويشير صندوق النقد الدولي إلى أنه لا تزال هناك حاجة ملحة لبذل المزيد من الجهود – على الرغم مما تم تحقيقه – لجعل المواطنين قادرين على المنافسة في سوق العمل الخاص.
رابعاً: تغيرات المناخ: تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مخاطر كبيرة جراء التغيرات المناخية، على الرغم من أنها تسهم بنسبة أقل من 6% من الانبعاثات العالمية، كما أنها واحدة من أكثر المناطق قليلة المياه. وتشير التوقعات إلى احتمالية تعرض ما يقرب من 80 إلى100 مليون شخص إلى الإجهاد المائي بحلول عام 2025، وسيشكل ذلك خطورة على قطر، وليبيا، والإمارات، والكويت، وخصوصاً مصر.
خامساً: ارتفاع أسعار الغذاء: يعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية أمرا مثيرا للقلق لكثير من بلدان المنطقة، خاصة في ظل اعتماد بعضها على القمح كعنصر رئيسي للغذاء. ومن المحتمل حدوث تقلبات لأسعار الغذاء بسبب نقص المياه، وتغيرات المناخ، خاصة في الدول التي تعتمد على الاستيراد مثل مصر، وستشعر بالتضخم في الأسعار.
سادساً: الطاقة: حيث تعد أحد محركات التغيير المهمة في المنطقة. فالدول التي تعاني نقصا في مواردها، وارتفاعا نسبيا في أسعار الطاقة نسبياً ستواجه صعوبات في مرحلة التعافي الاقتصادي، طبقاً لما ذكره البنك الدولي. فالدول المستورة للنفط، مثل مصر، وتونس، والمغرب، والأردن، تعاني تأثير ارتفاع أسعار النفط فى عجز ميزانيتها. كما أن نقص الكهرباء – خاصة خلال أشهر الصيف – يشكل تهديداً على التعافي الاقتصادي في دول مثل: مصر، وتونس، والأردن.
وأوضحت الدراسة أن انحراف الدول الغنية بالنفط عن عملية التنمية أدى إلى زيادة تبعية المنطقة العربية. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار النفط، فإن الكثير من الدول، مثل العراق وليبيا، وجدت صعوبة في الموازنة بين النفقات والعائدات. كما أعاق عدم الاستقرار في العراق وليبيا تصدير النفط. بينما ترغب الدول الغنية بالنفط، مثل السعودية، في زيادة أسعار النفط لتمويل برامج الرفاهية الاجتماعية. ولكن ربما تنخفض الأسعار تدريجياً نتيجة الاكتشافات النفطية في الولايات المتحدة.
وتطرقت الدراسة إلى بعض التوقعات بأن تصبح المملكة السعودية مستوردا صافيا للنفط بحلول عام 2037، في حالة عدم زيادة أسعار النفط المحلي للتقليل من الاستهلاك.
سابعاً: تصاعد تهديد الصراع: يؤثر الصراع بشكل كبير فى عملية التنمية الاقتصادية القائمة في أي دولة في المنطقة. فقبل عام 2005، انخفضت معدلات الصراعات الداخلية في الدول، والخارجية بين الدول وبعضها إلى أدنى حد. ولكن اختلفت الأمور حالياً في الشرق الأوسط بصورة كبيرة، بسبب الصراع الأخير في غزة، والعنف الطائفي في العراق، والحرب الأهلية في سوريا، وانتشار الميليشيات المسلحة في ليبيا، فضلاً عن الانقسام في مصر بين مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين، ومؤيدي الرئيس “السيسي”، كما ذكرت الدراسة.
سيناريوهات الشرق الأوسط
أشار التقرير إلى ثلاثة سيناريوهات متوقعة في الشرق الأوسط، بسبب الطبيعة المزدوجة لدوافع التغيير، واحتمالية وجود سيناريوهات مدمرة في حالة انتشار الصراع. ومن المتوقع حدوث أحد هذه السيناريوهات، التي تتنوع نظرتها بين التفاؤل والتشاؤم خلال العقد القادم، طبقاً للمستجدات المتوقع حدوثها على الساحة السياسية في المنطقة.
السيناريو الأول: “تحول الزاوية”، وهو السيناريو الأكثر تفاؤلاً، ويقوم على أساس احتمالية أن يشهد العقد القادم كسر إيران لعزلتها، وإعادة تقديمها إلى المجتمع الدولي، في إطار ديناميكية إقليمية جديدة، في حال توصلت محادثات مجموعة (5+1) إلى اتفاق دائم بشأن البرنامج النووي الإيراني. وربما تسمح التطورات على المدى الطويل بمزيد من التفاؤل، ولكنها ستكون أقل فائدة لصناع القرار الذين لا يريدون مجرد رؤية قاصرة بشأن اتجاه التطورات، ولكن أيضاً التأثير بشكل إيجابي لإحداث التغيير.
وأوضحت الدارسة أنه إذا نجحت المفاوضات الدولية في الحد من تطوير البرنامج النووي الإيراني بشكل فعلي تحت إشراف دولي صارم، فإن الأوضاع في المنطقة ستتغير تماماً، وستتزايد قدرة إيران على التنافس في المنطقة بسبب قدراتها التكنولوجية، وارتفاع نسبة التعليم لديها، وانخفاض معدل المواليد.وتشير الدراسة إلى أن الوصول إلى اتفاقية مع طهران ربما يقلل من التوترات السنية – الشيعية، ويفتح الطريق إلى مزيد من التعاون الإقليمي، مشيراً إلى أن ذلك ليس احتمالاً بعيد المنال، ولكنه ليس مضموناً على الإطلاق.
وأشار التقرير إلى ضرورة اللجوء إلى “العصا والجزرة” لمحاولة وقف الدعم الإيراني للجماعات الإرهابية الراديكالية. وفي حالة فشل محادثات مجموعة (5+1)، وإصرار إيران على مواصلة برنامجها النووي، فإن ذلك ربما يدفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى القيام بعمل عسكري ضد طهران لمنع برنامجها النووي.
وألمح التقرير إلى أن نجاح إيران في أن تصبح قوة نووية سيدفع ذلك القوى الأخرى، مثل السعودية، ومصر، وتركيا لتطوير ترسانة نووية، مما يشكل ضغوطاً كبيرة على واشنطن للدفاع عن شركائها في المنطقة ضد أي عدوان.
السيناريو الثاني: “انتشار الطائفية”، وهو السيناريو الأكثر خطورة. فالتوترات الطائفية الأخيرة في المنطقة، خاصة في العراق، وسوريا، ولبنان، تزيد من فرص قيام حرب شاملة بين القوى السنية والشيعية، وربما تقسم الشرق الأوسط الجديد إلى مجموعات ذات حكم ذاتي على أساس طائفي، مع احتمالية استمرار الصراع.وسيحرز الأكراد أكبر مكاسب من الصراع الطائفي في المنطقة، طبقاً لما ذكرته الدراسة.
وحذر الكاتب مما يثيره الصراع المدني من عنف متزايد، واحتمالية استمرار هذه الصراعات من ست إلى تسع سنوات، وفقاً لما ذكره بعض المحللين. ويعد التوصل إلى حلول سياسية للصراعات المتزايدة شرطا أساسيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويعد ذلك عكس النموذج المعتاد في المناطق الأخرى، حيث يؤدي النمو الاقتصادي إلى تغيرات سياسية إيجابية.
السيناريو الثالث والأخير: “السلطوية الجديدة”، تشير الدراسة خلال هذا السيناريو إلى تضاؤل دعم الطبقة الوسطى للحريات الجديدة بشكل كبير لمصلحة الاستقرار، مع تزايد التوترات الاجتماعية الدينية، وضعف مستوى التماسك الاجتماعي، مما يسهم بشكل كبير في دعم بقاء الأنظمة الحاكمة. وتلفت الدارسة إلى احتمالية ظهور هذا السيناريو في دول لا تشترك مباشرة في الصراع الطائفي مثل مصر.
وعلى الرغم من التوترات القائمة في المنطقة، أكدت الدراسة ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية، وبناء أنظمة تعليمية أفضل لتعليم مهارات القرن الحادي والعشرين، وتهيئة البيئة لاستقبال المشاريع، وتقليل معدلات البطالة، وتنويع اقتصادات دول الخليج بدلاً من الاعتماد على صادرات الطاقة فحسب. وأضافت أنه كلما استمرت الحروب الطائفية في الانتشار، فإن هذه الإصلاحات ضرورية للتغلب على عقود طويلة من فقدان القدرة التنافسية بدلاً من الانشغال بالعنف والصراعات.
واختتمت الدراسة بالإشارة إلى أنه من المُرجح حدوث السيناريوهات السلبية بشكل أكبر، بعدما أصبحت بعض دول المنطقة كملاذات آمنة للجماعات الإرهابية مثل سوريا، والعراق، وامتداد الأوضاع في تلك البلدان حتماً إلى البلدان المجاورة، مما سيقوض الاقتصاد العالمي. وبالتالي، فالتطورات في الشرق الأوسط لا تُشكَل من خلال الاتجاهات العالمية، ولكن من المرجح أن تُحدد المنطقة مستقبل بقية العالم. فأي سيناريو محتمل في الشرق الأوسط ستكون له تأثيرات كبيرة فى بقية العالم. وما هو مؤكد أن مستقبل الشرق الأوسط ستكون له آثار عميقة على الصعيد العالمي، وسيستمر تأثير ذلك فى البيئة السياسية، والاقتصادية، والأمنية العالمية.
*خبير في مركز برنت سكوكروفت للأمن الدولي
عرض سارة خليل، باحثة في العلوم السياسية