تلام الضحيّة في حالة واحدة لا غير، حين تستمّر في لعب ذلك الدور. هذا هو المفتاح الرئيسيّ لتفسير استمرار الهيمنة الأجنبيّة على دول “العالم الثالث”.
منذ اللحظات الأولى لتشكّل الأمم كان التوسّع والسيطرة على مقدّرات وأراضي الشعوب الأخرى محور الصراع، وقد عرف التاريخ الإنساني أشكالا عديدة لتطوّر وسائل الاستعمار ووضع اليد على دول بأسرها، بدأ بالحملات العسكريّة المباشرة مرورا بحملات التبشير الدينيّة وصولا إلى الهيمنة الاقتصاديّة وتفكيك النسيج الاقتصاديّ المحليّ للدول المستهدفة في ظلّ سياق دوليّ عالمي اسمه العولمة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتشكّل ملامح عالم جديد أحاديّ القطب.
تونس، التي ومنذ سبعينات القرن الماضي اختارت أن تسير في ركاب السوق الحرّة ، لم تكن خارج نطاق ارتدادات العولمة ولم يكن اقتصادها بمنـأى عن ضرورة التسليم بقواعد المرحلة الجديدة؛ فتح السوق المحليّة أمام تدفّق رؤوس أموال الدول الكبرى والارتهان لمقرّرات هيئات النقد الدوليّة.
في هذا المقال سنواصل تحليل المشهد الاقتصاديّ التونسيّ وارتباطاته بالخارج، فبعد أن تناولنا موضوع المبادلات الخارجيّة ودورها في صراع الهيمنة الاقتصاديّة، سنسلّط الضوء على الاستثمار الأجنبيّ المباشر في تونس وتبعاته على الاقتصاد الوطنيّ بالإضافة إلى ارتداداته السياسيّة.
الاستثمار الأجنبي المباشر في تونس: بين ضخامة الرهانات وتواضع النتائج
اتخذ الاستثمار الأجنبي المباشر أهميّة كبرى في تونس خلال العقدين المنقضيين، تمثّل في الخصوص في مجلّة الاستثمار التي حاولت أن تفتح السوق التونسيّة بأقصى قدر ممكن أمام تدفّق رؤوس الأموال الأجنبيّة بتسهيلات كبرى وإعفاءات جبائيّة أثارت الكثير من الاستهجان في أوساط الأخصائيين. ولكن، رغم المراهنة الرسميّة للنظام السابق ولحكومات بعد الثورة على الاستثمارات الأجنبيّة لدفع النمو الاقتصاديّ، إلاّ أنّ النتائج كانت متواضعة في معالجتها لأبرز مشاكل الاقتصاد المحليّ: الاختلال الجهوي والبطالة.
إنّ الأرقام المعلنة من قبل السلطات الرسميّة حول تأثير الاستثمارات الخارجيّة ومكانتها في الاقتصاد التونسيّ تعكس الجانب المُراد إبرازه للعموم لا غير، إذ تساهم الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة بما يقارب 3,5% من إجمالي الناتج المحليّ حسب إحصائيات البنك المركزي التونسي. وممّا يدعّم مكانة هذه الاستثمارات هو شمولها لجميع القطاعات تقريبا بأكثر من 3000 شركة متفاوتة الأحجام وبطاقة تشغيليّة بلغت 300 ألف موطن شغل، كالطاقة والصناعات المعمليّة والفلاحة والسياحة والخدمات وبقيمة جمليّة تجاوزت 2.5 مليار دينار سنة 2012 بحسب نفس المصدر. ولكنّ نفس هذه الأرقام تعكس تناقضات وعجز هذا الرهان عن لعب دورة الحقيقيّ في الدورة الاقتصاديّة.
فالحجم الإجمالي للاستثمارات الأجنبيّة لا يعكس المردوديّة المنتظرة، ففي إحصائيات أصدرتها وكالة النهوض بالاستثمار الخارجيّ يبدو تأثير الجهود الرسميّة المبذولة سواء على الصعيد السياسيّ أو التشريعيّ لجذب الاستثمارات الأجنبيّة وتسهيل تركيزها في تونس محدودا للغاية على صعيد التشغيل، إذ لم تتجاوز مواطن الشغل المستحدثة للاستثمارات التي تمّ انجازها لسنة 2012 ال5000 آلاف موطن شغل، وهو رقم ضعيف للغاية بالنظر إلى حجم البطالة في تونس والتي تناهز ال700 ألف عاطل عن العمل. وهو ما يعكس طبيعة هذه الاستثمارات التي تركّز على الجانب الربحيّ للمستثمر على حساب المردوديّة التشغيليّة.
وتتوّزع مجالات الاستثمارات الأجنبيّة في تونس على قطاعات عديدة، أهمّها قطاع الطاقة الذي يستأثر بالحجم الأكبر من جملة الاستثمارات بقيمة بلغت 886 مليون دينار سنة 2012، والتي تعتمد بالأساس على الخبرات الأجنبيّة، ومن ثمّ القطاع الصناعي التحويلي بقيمة 553 لنفس السنة حسب البنك المركزيّ، وهو قطاع لا يعتمد بالأساس على جودة اليد العاملة أو نقل المعرفة بقدر ما هو استثمار ريعيّ الغرض منه تخفيض كلفة الإنتاج باستغلال اليد العاملة الرخيصة في تونس ونقل فائض الربح إلى دول المصدر. أمّا القطاع السياحيّ فيبدو حتّى هذه اللحظة خارج اهتمامات المستثمرين الأجانب نظرا لارتباطه العضوي بالوضع السياسيّ والأمنيّ في البلاد وهو ما يفسّر تواضع قيمة الاستثمارات في هذا القطاع والتي لم تتجاوز 77 مليون دينار. أمّا في قطاع الخدمات كالنقل والاتصالات، فما تمّ خلال السنوات الفارطة لم يتعدّى تغيير ملكيّة رأس المال لشركات موجودة أصلا كتونيزيانا، وهو ما لم يؤثّر على سوق التشغيل.
إذن وكما ذكرنا سابقا، فإنّ الأولويّة المطلقة بالنسبة للمستثمرين الأجانب هي تحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح بغضّ النظر عن أولويّات البلاد والتي تتخذ طابعا سياسيّا واجتماعيّا كالتشغيل الذي كان القادح الرئيسيّ للثورة.
أما على مستوى التفاوت الجهويّ، ورغم المزايدات الكبرى التي أعقبت الثورة بخصوص التنمية الجهويّة والأولويّة القصوى للمناطق التي حرمت طيلة عقود من حقوقها في مخصّصات التنمية والاستثمار، فإن النتائج المسجّلة وبالأرقام الرسميّة التي تسعى الحكومات المتعاقبة لتغطيتها وصرف النظر عنها تبرز بوضوح استمرار الفارق الجهويّ على صعيد الاستثمارات الأجنبية.
فمن خلال الدراسة التي أصدرتها وكالة النهوض بالاستثمار أواخر سنة 2012، يبرز الفارق جليّا بين حجم الاستثمارات في المناطق الكلاسيكيّة الجاذبة للاستثمارات على الشريط الشرقي للبلاد وبين الداخل التونسيّ. إذ يتركّز أكثر من 93% من الشركات الأجنبيّة في العاصمة والشريط الشرقي للبلاد. وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول جديّة الحكومات المتعاقبة في معالجة التفاوت الجهوي. فإلقاء اللوم على رؤوس الأموال والمستثمرين الأجانب والتونسيّين مجرّد ذريعة للهروب من استحقاقات الدولة ومسؤوليتها في دفع التنمية في الدواخل التونسيّة، فالوضع المزري للبنى التحتيّة وتواضع الموارد البشريّة وغياب الوسائل اللوجيستيّة هو السبب الرئيسيّ لكون هذه المناطق منفّرة للاستثمارات، إذ أنّ من واجب الدولة تهيئة المحيط الملائم لبعث الاستثمارات الأجنبيّة، إن سلمنا جدلا بجدواها الاقتصاديّة. وهو ما يخلق الفرق بين الشريط الشرقي والغربيّ للبلاد من حيث توفّر متطلّبات بعث المشاريع كالطرقات والموانئ البحرية والجويّة ونسبة التمدرس ووسائل الاتصال الحديثة.
إنّ دسترة الأولويّات الاقتصاديّة كما جاء في الفصل العاشر من الدستور يجب أن تدخل حيّز التنفيذ وأن لا تظلّ مجرّد حبر على ورق، فأولويّات الاقتصاد الوطني والحاجات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للشعب هي فوق أيّ اعتبارات سياسيّة، فإن تعارضت مع المردوديّة الحالية لنسق وخريطة الاستثمار الأجنبيّ في تونس، فلا مناص من مراجعة هذه السياسة التي امتدّت منذ عقود وأثبت التاريخ أنّها لم تحلّ الأزمة بل عمّقتها.
الخارطة الاستثماريّة في تونس واللاعبون الجدد
منذ أن بدأت تونس في الانفتاح على الاقتصاد العالمي وتبنّي منهج السوق الحرّة، كان لأوروبا- كما هو الحال بالنسبة للمبادلات التجاريّة – النصيب الأكبر من الاستثمارات المباشرة في تونس وهو ما يعكس تداخل السياسي في الاقتصاديّ واستمرار الهيمنة الاقتصاديّة لفرنسا خصوصا على الدورة الاقتصاديّة التونسيّة.
تبرز الأرقام والإحصائيات أنّ دول الاتحاد الأوروبي تستأثر بما يقارب 91 % من الاستثمارات الأجنبيّة، ولكنّ فرنسا تتصدّر قائمة الدول المستثمرة في السوق التونسيّة، إذ تملك لوحدها ما يقارب 1269 شركة في تونس أي بما نسبته 42 % من إجمالي الاستثمارات في البلاد. هذا وتتوّزع الاستثمارات الفرنسيّة على جميع القطاعات تقريبا، حيث يبلغ حجم الاستثمارات الفرنسيّة في المجال الصناعيّ ما يقارب 150 مليون دينار تونسي. في مجال الطاقة، ورغم تواجد الاستثمارات الفرنسيّة بقيمة 4.7 مليون دينار، إلاّ أنّ الحضور الأكبر هو من نصيب بريطانيا وإيطاليا والنمسا بالإضافة غلى الولايات المتحدة الأمريكيّة.
الوجود البريطاني في مجال الطاقة هو الأكبر من بين كلّ الدول الأوروبيّة، إذ تبلغ قيمة الاستثمارات البريطانية 3.7 مليار دولار عبر الشركة العملاقة “بريتش غاز” التي تمثّل الاستثمار الأضخم في تونس، حيث توفّر ما يزيد عن 56 % من احتياجات تونس من الغاز والتي تتمتع بامتياز استغلال حقلي مسكار وصدربعل، ويعود تواجد هذه الشركة في تونس إلى ما يزيد عن 15 سنة.
أمّا السياحة، فتبدو الهيمنة المطلقة وفق إحصائيات وكالة النهوض بالاستثمار من نصيب قطر التي دخلت بقوّة السوق التونسية بعد هروب بن عليّ في جانفي 2014 بما قيمته 70 مليون دينار لسنة 2012 وبنسبة 90 % من إجمالي الاستثمارات الأجنبيّة في القطاع السياحيّ الذي تحوّل إلى قطاع منفّر من ما يزيد عن 3 سنوات.
لاعب آخر على الساحة الاستثماريّة التونسيّة بدأ يكرّس وجوده خلال السنوات الأخيرة وهي مؤسسّة التمويل الدوليّة (IFC)، التابعة للبنك الدولي. لم يكن الموضوع ليسترعي الاهتمام لو اقتصرت نشاطاتها على تمويل المشروعات المتعثّرة أو الاستشارة الماليّة، ولكن أن يصبح البنك الدوليّ من خلال هذه المؤسّسة أحد المستثمرين في السوق التونسيّة وواضع الإستراتيجية التنمويّة في آن واحد، فهذا قد يحيلنا إلى العديد من التحليلات والتخمينات بخصوص النوايا الحقيقيّة لهيئات النقد الدوليّة. وقد استطاعت IFC أن تدعّم وجودها تونس من خلال عمليات الاستثمار المتتالية والتي شملت عديد القطاعات كالقطاع البنكي، حيث أصبحت مساهمة في رأس مال بنك الأمان، بالإضافة إلى القطاع الصناعيّ عبر شراء نصيب بلغ 19% من أسهم شركة Fuba، وأخيرا شراء الفنادق التي تعاني من صعوبات مالية تعيث مواصلة نشاطها. في خرق واضح للمهنيّة والقوانين حين يتحوّل البنك الدولي إلى مخطّط ومساهم في آن واحد، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل حول المخططات الحقيقيّة لهذه الهيئة النقدية الدوليّة وهدفها الرئيسي في تونس.
إذن، وفي قراءة أولى للخارطة الاستثماريّة في تونس، يبدو أنّ البلاد ترتبط ارتباطا عضوّا بالاقتصاد الأوروبيّ وخصوصا منه الفرنسيّ في مواصلة للهيمنة الفرنسيّة على تونس والتي تمتد منذ الحقبة الاستعماريّة المباشرة والتي اتخذت منذ عقود أبعادا اقتصاديّة تناولتها نواة في أكثر من مناسبة، ولكن اللافت للنظر، أنّه ومنذ 2010 وبداية 2011، بدأت تغييرات كبرى تطرأ على طبيعة العلاقات الاستثماريّة في تونس. فقد شهدت البلاد ونظرا لتغيّر المعطيات السياسيّة، تحوّلات اقتصاديّة رصدناها من خلال التطوّر الذي شهدته نسب الحضور في الساحة التونسيّة عبر السنين وخصوصا بعد 14 جانفي 2011.
هذه التعديلات الجديدة التي عرفتها الخارطة الاستثماريّة التونسيّة، شملت بالأساس ألمانيا، دول الخليج العربيّ وتركيا.
ألمانيا، القوّة الاستثماريّة الصاعدة في تونس
إلى حدود سنة 2010 لم تتجاوز الاستثمارات الألمانيّة في القطاع الصناعي خصوصا 14.6 مليون دينار، ولكنّ ومع نهاية سنة 2012، قفزت هذا الرقم ليبلغ أكثر من 100 مليون دينار في ظرف سنة، وهو يعكس بالتأكيد الاندفاع الألماني لافتكاك نصيب من السوق التونسيّة بعد سقوط بن عليّ أو بمعنى آخر بعد أن اختفى الضامن الرئيسيّ لاحتكار فرنسا السوق المحليّة.وقد دفع هذا الوضع فرنسا إلى تفعيل قنواتها الدبلوماسية و إرثها السياسي في تونس في محاولة منها لكبح جماح الاندفاع الألمانيّ عبر الزيارات المتكرّرة للرئيس الفرنسيّ لتونس والاتفاقيات العديدة الممضاة بين الطرفين بالإضافة إلى طرح مشروع تحويل الديون الفرنسيّة إلى استثمارات في السوق التونسيّة.
تركيا والسوق التونسيّة المغرية
بعد وصول حركة النهضة إلى الحكم سنة 2011، بدا التقارب الإيديولوجي جليّا بين الحكومة التونسيّة والحكومة التركيّة التي لم تضيّع فرصة التوافق لتعزيز موقعها الاقتصاديّ في البلاد.
والمدخل كان دائما سياسيّا، فبدعوى “دعم المسار الانتقالي الديمقراطي” في تونس، ارتمت تركيا بكلّ ثقلها السياسيّ في الساحة التونسيّة، وكان الهدف تطويع السياسيّ في مصلحة الاقتصاديّ. ورغم التواجد التركي في المجال الاقتصادي المحليّ منذ سنة 2008، عبر مطار النفيضة الذي نفذته مجموعة « TAV »، والذي تحوّل فيما بعد حجر الأساس في الدفع بالمبادلات التجاريّة واكتساح السوق التونسي بالبضائع التركيّة. كما أنّها تسعى إلى تعزيز وجودها في السوق التونسيّة ليبلغ سنة 2013 أكثر من مليار دينار تونسي كما وعد الرئيس التركي “عبد الله غول” أثناء زيارته غلى تونس في فيفري 2013. على صعيد الاستثمار المباشر، بعثت تركيا ما يزيد عن 17 شركة تنشط بالخصوص في قطاع الخدمات والمقاولات والبنى التحتيّة والصناعة، لعلّ من أهمّها شركة « Ekon » للمقاولات والاسمنت بالإضافة إلى شركة “WBS-Winnen Borji” التابعة لمجموعة “Yagin” والتي تتمركز في صفاقس وتختص في صناعة الملابس العسكريّة والمظلاّت، وغيرها من الشركات التي تعمل في مجال النسيج وقطع السيارات، وهو ما أكّدته وكالة النهوض بالاستثمار عندما أشارت الإحصائيات إلى تطوّر الاستثمارات التركيّة في المجال الصناعيّ من 0,03 مليون دينار سنة 2011 إلى 0.22 مليون دينار سنة 2012، أو كما أعلن رئيس الوزراء التركي من نيته تخصيص أكثر من 470 مليون دولار للاستثمارات المباشرة في تونس خلال السنوات القادمة.
ورغم التطور الذي تعرفه الاستثمارات التركيّة المباشرة في تونس، إلاّ أنّ حجم التوغّل التركيّ في الأسواق التونسيّة يبدو أكثر وضوحا على مستوى المبادلات التجاريّة بين البلدين.
الخليج العربي والاستثمارات الآمنة
التواجد الخليجيّ في السوق التونسيّة لم يكن ملحوظا طوال عقود، ولكن تاريخ 14 جانفي 2011، مثّل منعطفا حاسما في تشكيل ملامح الخارطة الاستثماريّة في تونس.
لقد بيّنت الإحصائيات الصادرة عن وكالة النهوض بالاستثمار عن مدى تضخّم التواجد الخليجيّ في تونس بعد الثورة، والحضور الأبرز كان للقطريّين، إذ ارتفعت الاستثمارات القطريّة في مجال الخدمات بشكل كبير منذ سنة 2011 حين كانت لا تتجاوز 53 مليون دينار لتبلغ 740 مليون دينار في موفى 2012، ولتكون المسيطر على الاستثمارات السياحيّة بقيمة 70 مليون دينار من إجمالي 77 مليون دينار. الذراع القطريّة الاستثماريّة طالت العديد من المنشئات التونسيّة، أوّلها مشروع “Tozeur Desert Resort” الذي بُرمج منذ عهد بن عليّ وتمت المصادقة عليه بعد الثورة وصول حركة النهضة إلى الحكم، حيث ابتاعت قطر ما يقارب 40 هكتارا ب6 ملايين دينار تونسي، بالإضافة إلى نزل “طبرقة بيتش” والمساعي الحثيثة لوضع اليد على نزل “Russelior” في الحمامات الجنوبيّة. دون أن نغفل عن تمويل مصفاة الصخيرة التي ستبلغ تكلفتها 3 مليارات دولار والسيطرة على شركة تونيزيانا للاتصالات وإمضاء اتفاقيّة تمويل بين صندوق الصداقة القطري و بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة في أوائل شهر فيفري 2014.
الكويت والإمارات والعربيّة السعوديّة لم يكونوا بدورهم غائبين عن السوق التونسيّة المفتوحة، إذ عملت هذه الدول على تكثيف تواجدها واستثماراتها في تونس، من خلال مشاريع المقاولات الكبرى على غرار المشروع الإماراتي “سما دبي” أو مركّب تونس الرياضيّة، كما سعت السعوديّة لتدعيم تواجدها عبر بعث ما يزيد عن 36 مشروعا استثماريا توزعت بين الخدمات والفلاحة والصناعة، كما تتواجد السعوديّة بقوة في البورصة التونسية من خلال بيت الإيجار السعودي التونسي وقد أقدمت أخيرا على الاستثمار في مجال الإعلام عبر شراء قناة حنبعل التونسيّة المملوكة سابقا لرجل الأعمال عربي نصرة، وقد تمّت الصفقة عبر شركة غاية للأسهم والتي تعتبر من اكبر الشركات السعودية وفي العالم في المجال السمعي البصري.
السؤال الأبرز هنا، هذه الطفرة في الاستثمارات الخليجيّة وخصوصا القطريّة، هل انعكست إيجابا على الاقتصاد الوطنيّ؟ الجواب هنا يكمن في طبيعة الاستثمارات الخليجيّة والقطريّة، فمعظم الأموال التي تدفّقت لم تتجه نحو استثمارات صناعيّة أو خدماتيّة ذات مردوديّة تشغيليّة عالية، بل توجهت لشراء الشركات والمؤسسات الموجودة أصلا كشركة “تونيزيانا” للاتصالات أو شراء الفنادق.كما أنّ المشاريع المزمع تنفيذها كالميناء الترفيهي في المهديّة، هي وبحسب مقياس النجاعة الاقتصاديّة، مشاريع عقيمة على مستوى القيمة المضافة وقدرة الاستيعاب، فهي مشاريع تكاليفها ضخمة ولكنّها لا تحتاج بعد الانجاز إلى الكثير من اليد العاملة المحدودة التكوين أو المختصّة على حدّ سواء.
ورغم أنّ قطر كانت في المرتبة الثانية في السوق التونسيّة لسنة 2012 بنسبة 48% من مجموع حجم الأموال المعتمدة للاستثمارات، إلاّ أنّها غابت تماما عن قائمة الاستثمارات المشغلّة. وهو ما يعكس ذهنيّة المستثمر الخليجيّ الذي يسعى لضخّ أمواله في المشاريع المضمونة أو الآمنة وعالية الربحيّة بغضّ النظر عن طبيعتها ومردوديتها على البلد المضيف واحتياجاته الاقتصادية والاجتماعية.
إنّ المراهنة على رؤوس الأموال الأجنبيّة في دفع النمو الاقتصاديّ يبدو من خلال التجربة التي عايشتها تونس خلال عقود مضت، رهانا محفوفا بالمخاطر، إذ تختلط الاستثمارات بالحسابات السياسيّة وتتحوّل الشركات إلى مراكز قوى داخل البلاد المضيفة لترتهن شيئا فشيئا السيادة والإرادة الوطنيّة.
إنّ الجوانب السلبية للاستثمار الأجنبي تتمثّل خصوصا في تمتع الشركات العابرة للقارات والأجنبية الكبري بقدرات مالية وتنظيمية عالية لا تتوفر للشركات الوطنية وبذلك تستطيع فرض توجهاتها الإنتاجية و التشغيلية والتسويقية و فرض شروطها التي تهدف لتحقيق اكبر قدر من الأرباح بشكل يعلو فوق أي هدف أخر. ولتلك السيطرة مخاطر كبيرة علي المستويين الاقتصادي و السياسي. العيب الثاني، هو أن المستثمرين الأجانب غالب ما يتعاملوا مع الموارد بشكل استنزافي مما يؤدي تسريع استهلاك هذه الموارد الطبيعية وتحويل عائداتها إلي الدولة الأم مما ينعكس سلبا على الدولة المضيفة على المستوي البعيد. الجانب الثالث هو كبر حجم الأموال المحولة إلي الخارج كأرباح مما يؤثر سلبا علي ميزان المدفوعات. كما أنّ المطّلع على طبيعة الاستثمارات الأجنبيّة في تونس يلاحظ مشكلة أخرى وهي تركيز المستثمر الأجنبي علي قطاعات بعينها (الطاقة،الاتصالات، المقاولات والبنوك ) دون مراعاة استراتيجيات وخطط التنمية للبلد المضيف.
إذن من السهل أن نفتح أسواقنا أمام الشركات العالميّة، وأن تصبح تونس مركز جذب لرؤوس الأموال العابرة للقارات، ولكن الأصعب هو تحصين الاقتصاد الوطنيّ وامتلاك زمام المبادرة والإنتاج والتعويل على القدرات الذاتيّة للبلاد لتأسيس اقتصاد وطنيّ حقيقيّ، لذلك فإنّ المراهنة على الاستثمارات الخارجيّة ليست سوى تسليما بالعجز عن الإصلاح والبناء أو خدمة لمصالح الآخرين.