قبل عامين فقط، تحقق حلم أبناء كل من محمد قبلان العنزي، وهادي حمد الشمري، بالحصول على الجنسية الكويتية، بعد قرابة ربع قرن على مقتل والديهم دفاعاً عن أمير الكويت الراحل، الشيخ جابر الأحمد الصباح، الذي تعرض لمحاولة اغتيال، أشارت أصابع الاتهام فيها إلى إحدى المنظمات الموالية للنظام الإيراني.
ونظراً لأن الحرس الأميري كان، ومازال، يتشكل في غالبيته من فئة “عديمي الجنسية”، أو الذين يُعرفون بـ”البدون”، فقد جاء معظم الضحايا، سواء القتلى والجرحى، من أبناء هذه الفئة، الذين كانوا يتمتعون بنفس الحقوق والامتيازات التي تمنحها الدولة لمن يحملون جنسيتها، باستثناء فروق ضئيلة.
وبحسب الروايات الرسمية وغير الرسمية المتداولة في الكويت عن تفاصيل هجوم 25 مايو/ أيار 1985، الذي استهدف موكب أمير البلاد، فقد اندفع العنزي والشمري بسيارة الحراسة التي كانا يستقلانها، للاصطدام بالسيارة المفخخة، التي اقتحمت الموكب، ومنعها من الوصول إلى سيارة الأمير.
وبعد أن ظهر الشيخ جابر على شاشات التلفزيون، وقد بدت على وجهه أثار الانفجار، لبث رسالة طمأنة إلى شعبه، صدرت عدة وعود حكومية بمنح أسر “الشهداء” والجرحى الذين سقطوا نتيجة ما وصف بـ”الهجوم الغادر”، الجنسية الكويتية، وهو الأمر الذي تأخر لما يقرب من 25 عاماً.
ورغم أن منح أبناء العنزي والشمري جنسية الدولة التي يعيشون فيها منذ عشرات السنين، جاء متأخراً كثيراً، إلا أنه يمنح بعض الأمل لأبناء آخرين من “البدون”، تضع الحكومة الكويتية أسماءهم ضمن قوائم “الشهداء”، الذين سقطوا أثناء “الغزو” العراقي للكويت عام 1990، أو أثناء معارك “التحرير” في العام التالي.
من هؤلاء، أبناء “الشهيد” حمود البعنون العنزي، الذين يعيشون ظروفاً مأساوية في الأردن، عبر عنها أحد أبنائه، يُدعى خالد، في عدة رسائل وجهها إلى سياسيين وأعضاء بمجلس الأمة الكويتي، جاء فيها أن أسرته خرجت إلى السعودية ومنها إلى الأردن، بحثاُ عن والدهم، الذي اختفى منذ الغزو، إلى أن تمت استعادة جثته من العراق عام 2004.
وقال خالد إنه خرج مع إخوته من الكويت بينما كانوا أطفالاُ، حيث لم يكن شقيقه الأكبر قد تجاوز الـ13 عاماً، وأشار في مداخلة مع قناة تلفزيونية، إلى أن عمه “استشهد” أيضاً في معركة “التحرير”، وأضاف أن “كل ما أتمناه هو أن تسمح لنا الحكومة بالدخول إلى الكويت لزيارة قبر والدنا في مقابر الشهداء، وقراءة الفاتحة له.. هذا كل ما نريده في الوقت الراهن.”
وعن سبب منعه وأفراد أسرته من دخول الكويت، قال خالد البعنون: “ليس هناك سبب معين.. يقولون إننا نحمل الجنسية الأردنية وقد أرسلت كتاباً من وزارة الداخلية الأردنية بأننا لا نحمل أي جنسية أردنية.. ولكن لم يتم التجاوب مع طلبنا حتى الآن.. لا نعرف حقيقةً ما هي المشكلة.”
ووفق تقديرات الحكومة الكويتية، أعلن عنها وزير الدفاع في فترة “الغزو”، الشيخ عبدالله الجابر الصباح، فإن نسبة “البدون” الذين شاركوا في حرب “تحرير الكويت” ربما تتجاوز 80 في المائة من الجيش الكويتي، وتضم قوائم “الشهداء” والأسرى أسماء المئات منهم.
وعن قضية أبناء “الشهيد” البعنون، قالت الناشطة الكويتية رنا العبدالرزاق لـCNNبالعربية، إن “هناك توجيهات صدرت بالفعل من الديوان الأميري بإعادة أسرته إلى الكويت.. لكن لم يتم ذلك إلى الآن”، مشيرةً إلى أن هناك بعض التصريحات التي تشكك في “ولاء البدون” لدولة الكويت.
وتابعت في هذا الصدد: “هذا هو المزعج في الموضوع.. من الذي يملك القرار؟.. ومَن مِن مصلحته أن تبقى الأمور معلقة هكذا؟.. إذا لم يكن عندهم ولاء للكويت لما كانت لديهم تلك الحرقة في العودة إلى دولتهم التي ولدوا وعاشوا فيها، وضحّى والدهم بحياته من أجل الدفاع عنها.”
وعن تفسيرها للأسباب التي أدت إلى تفاقم مشكلة “البدون”، التي أصبحت بمثابة “قنبلة موقوتة” تهدد بالانفجار في الكويت في أي وقت، قالت العبدالرزاق إن المشكلة بدأت منذ تأسيس دولة الكويت، وتراكمت على مدى 50 عاماً أو أكثر، بسبب “التقاعس” الحكومي في حلها، إلى أن وصلت إلى هذا الحجم.
وفور إعلان استقلال دولة الكويت عن الحماية البريطانية عام 1961، بدأت الدولة الخليجية الوليدة تطبيق إجراءات منح الجنسية لمواطنيها سواء المقيمين على أرضها، أو من “البدو الرحل”، الذين لا يستقرون بمنطقة محددة، وتم تشكيل ما يُعرف بـ”لجان التجنيس”، لتلقي طلبات الراغبين في الحصول على الجنسية الكويتية، وفق شروط محددة.
وبحسب العبدالرزاق، فقد كانت فترة عمل تلك اللجان قصيرة جداً، حيث لم تتح الفرصة لعدد كبير من هؤلاء التقدم بطلبات الحصول على الجنسية، كما أن عددا آخر منهم لم يكن يعنيهم الحصول على الجنسية، باعتبار أنهم من البدو الذين يتنقلون بصورة دائمة عبر الحدود بين الكويت وكل من السعودية والعراق.
كما أشارت الناشطة الكويتية إلى أن المشكلة بدأت تتخذ بعداً آخر، في ضوء الامتيازات الواسعة التي تمنحها الحكومة للكويتيين، مما شجع البعض من التسلل إلى الكويت والادعاء بأنهم من البدون، أملاً في الحصول على الجنسية والاستفادة من تلك الامتيازات، إلا أنها أكدت أن عدد هؤلاء لا يقارن بالنسبة للعدد الحقيقي للبدون.
الأمر الآخر الذي أدى إلى تفاقم المشكلة، قيام الحكومة بإلغاء قانون يسمح للبدون باللجوء للقضاء، خاصةً المسجلة أسماؤهم في إحصاءات عام 1965، والذين أكد رئيس “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية”، صالح الفضالة، في أكثر من مرة، أنهم ممن يستحقون الجنسية الكويتية.
وبينما اعتبرت العبدالرزاق أن إعادة فتح باب التقاضي يُعد أحد وسائل حل المشكلة، وصولاً إلى تجنيس كل من يستحقون الجنسية الكويتية ، فقد شددت على ضرورة أن تقوم الحكومة بتقديم الأدلة على ادعاءاتها بأن نحو 70 ألفاً من البدون لديهم جنسيات دول أخرى، وليس مطالبتهم بالكشف عن جنسياتهم، عملاً بالقاعدة القانونية “البينة على من ادعى.”
وعن تحركات البدون في الشارع الكويتي مؤخراً، وصفته الناشطة الكويتية بـ”الحراك المستحق”، خاصةً بعد قيام الحكومة بحرمانهم من حقوقهم التي كانوا يتمتعون بها قبل عام 1986، الذي شهد بداية تطبيق ما أسمته “سياسة التضييق على البدون”، لدرجة أن تم حرمان جيل كامل من التعليم على مدى 17 عاماً، حتى عام 2003.
وأشارت إلى أن هذه التحركات كان من نتيجتها أن بدأت الحكومة في إعادة بعض الامتيازات إلي البدون، منها الأوراق الثبوتية كشهادات الميلاد والوفاة ووثائق الزواج والتوريث، وكلها كانت من الأمور التي لم يكن باستطاعتهم الحصول عليها من الدوائر الحكومية، خلال فترة “التضييق.”
وبينما ذكرت العبدالرزاق أن فترة عمل لجان التجنيس، التي جرى تشكيلها في ستينيات القرن الماضي، لم تستغرق سوى بعض الشهور، قال صالح السعيدي، عضو “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية”، إن اللجان استمرت في عملها لست سنوات، كما أُعيد فتحها في السبعينيات لاستدراك باقي الملفات التي لم يتم معالجتها.
وقال المسؤول الحكومي، في تصريحات لـCNN بالعربية، إن فترة السبعينيات شهدت ما وصفه بـ”الانفجار الأكبر” في أعداد “المقيمين بصورة غير قانونية”، بحسب التسمية الحكومية، حيث ارتفع عددهم من 39 ألف عام 1970، إلى 178 ألف عام 1980، أي بنسبة بلغت 350 في المائة خلال 10 سنوات.
وأشار السعيدي إلى أنه خلال تلك الفترة ظهرت حالات لم تكن موجودة من قبل، مما أدى إلى “تولد شك في أن هذه المجموعات دخلت البلاد بعد الاستقلال.. وبالتالي تفتقد أحد شروط الحصول على الجنسية” ، لافتاً إلى أن الأوضاع الاقتصادية في بعض الدول المجاورة جعل من الكويت “مقصداً للهجرة.”
وبينما أقر عضو الجهاز الحكومي المعني بمعالجة القضية بأن الحكومة لم تكن لديها رؤية واضحة لحل مشكلة “البدون”، فقد أشار إلى أن “الغزو” العراقي للكويت أدى إلى تقليص عددهم بصورة كبيرة، من 220 ألف في يونيو/ حزيران عام 1990، إلى 117 ألف في مارس/ آذار عام 1993.
ورفض السعيدي القول بإن الحكومة الكويتية رفضت عودة آلاف “البدون” ممن غادروا الدولة الخليجية أثناء “الغزو”، معتبراً أن غالبيتهم “عاد إلى بلده الأصلي”، خاصةً أنهم ليس لديهم أي وثائق تثبت أنهم يستحقون الحصول على الجنسية الكويتية، على حد قوله.
وكشف عن منح الجنسية لنحو 16 ألف شخص منذ “الغزو”، مما أدى إلى تقليص عدد “المقيمين بصورة غير قانونية” إلى 100 ألف شخص، جرى تقسيمهم إلى مجموعتين، الأولى تضم 35 ألفا من المسجلين في تعداد 1965، وبالتالي فإن لديهم أحد شروط التجنيس، بينما تضم المجموعة الأخرى 65 ألف شخص، ليس لديهم أي أوراق ثبوتية كويتية.
وكان “شرط التواجد”، وهو أحد شروط استحقاق الجنسية الكويتية، ويقضي بأن يكون مقدم الطلب قد أقام بصفة دائمة في الدولة الخليجية قبل عام 1930، إلا أنه تم تعديله للمقيميين حتى عام 1945، ثم جرى تعديله لمرة ثانية حتى عام 1965، وهو نفس العام الذي أجري فيه أول تعداد رسمي لسكان دولة الكويت.
ولفت السعيدي إلى أن الحكومة طرحت مبادرة لـ”توفيق أوضاع” الآلاف ممن تعتبرهم من حائزي جنسيات أخرى، تتضمن كشف هؤلاء عن جنسياتهم الحقيقية، مقابل منحهم إقامة فورية لمدة خمس سنوات، قابلة للتجديد، وبدون كفيل، مع استمرار تمتعهم بباقي الامتيازات التي قررتها الحكومة لـ”البدون” مؤخراً.
وأكد المسؤول الحكومي أنه تم بالفعل تعديل وضع ما يقرب من ستة آلاف شخص، في الوقت الذي أشار فيه إلى أن الحكومة قامت، خلال الفترة التي أعقبت تحرير الكويت، بوقف آلاف العسكريين من “البدون” عن العمل، حتى يقوموا بإظهار جنسياتهم الحقيقية، أما من “لم يستطع” إظهار جنسيته الأصلية، يتم صرف مستحقاته وتسريحه من العمل.
وعن المبادرة الحكومية لـ”تعديل أوضاع البدون”، شككت العبدالرزاق في الأرقام الصادرة عن الجهاز الحكومي، في الوقت الذي أكدت فيه قيام البعض بشراء جوازات سفر أجنبية للاستمرار في عمله، ولفتت إلى أن بعضاً ممن تقول الحكومة إنهم قاموا بتعديل أوضاعهم، قاموا بالهجرة إلى دول غربية.
وتساءلت لـCNN بالعربية بقولها: “أحد الأشخاص عدل وضعه فصار كندياً.. هل كان يحمل الجنسية الكندية ويخفيها حتى يظل ضمن فئة البدون، أم أنه هاجر إلى كندا وحصل على الجنسية الكندية؟”.. وتابعت بقولها: “كثيرون حصلوا على جنسيات مختلفة غير منطقية لوصفهم بدون.”
ورغم أن الأوضاع تبدو هادئة في الوقت الراهن، في ضوء بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الكويتية، إلا أن ما يصفها الكثير بقنبلة “البدون” قد تشتعل في أي وقت، لاسيما أن الحكومة الكويتية أكدت مؤخراً أن تلك الامتيازات التي قررت منحها لـ”المقيمين بصورة غير قانونية” مؤخراً، لن تستمر طويلاً.
“سي إن إن” عربية