افتعل أزمة وامنح أطرافها تصنيفاً، عربياً كان أم نوبياً، سنياً أم شيعياً، أو مسلماً ومسيحياً، ثم تناس فترات الروابط التاريخية بين الطرفين وأشعل فتيل “الفتنة”، وسمها بالطائفية، وتيقن أنك بذرت للحرب الأهلية نبتاً حتماً سيثمر ولو بعد حين. حصادك فيه مزيد من التفتيت والفرقة في عالمنا العربي.
الأمر نفسه حصدت السودان ثماره منذ سنوات عدة، وكانت النتيجة انفصال الشمال عن الجنوب، والآن في ولاية غرداية على مسافة 600 كيلومتر جنوب العاصمة الجزائر، يتجدد الصراع بين العرب السنة والأمازيغ، الذين يتبعون المذهب الإباضي، فهل ما يحدث هناك هو فتنة طائفية أم إهمال الدولة حقوق مواطنيها.
قبل أقل من أسبوع، عن موعد الانتخابات الرئاسية الجزائرية (17 أبريل الجاري) تجددت أعمال العنف في ولاية غرداية، وأسفرت عن مقتل شخصين من الميزاب، وإصابة العشرات من طرفي النزاع، لاسيما في صفوف الامازيغ الإباضيين (الميزاب)، فضلاً عن سقوط جرحى في صفوف قوات الأمن بين شرطي ودركي قارب عددهم 40 جريحاً. وكذا إحراق عشرات المنازل والسيارات وبساتين النخيل والمستودعات. كما أوقفت قوات الأمن عدداً من مثيري العنف والشغب. وقد عاد الهدوء أمس الأحد، إلى كل من بريان ووسط غرداية، حسب شهادات شهود عيان، الذين لم يستبعدوا عودة أعمال الشغب مجدداً.
واللافت في الموجة الجديدة من العنف التي تضرب المنطقة، هو انتقالها يوم الجمعة الماضي، إلى مدينة بريان التي تقع 45 كلم شمال وسط مدينة غرداية، التي سقط فيها الشاب، ناصر بن ناصر، إثر إصابته بطلق ناري، وشيّعت جنازته، عصر يوم أمس الأحد، في بريان، بينما قتل الضحية الثاني المدعو، الحاج شعبان حسان، بعدما تلقى طعنات عدة بسلاح أبيض، في حي لاقين في وسط غرداية.
ويقتنع سكان غرداية والميزاب على وجه التحديد، أن تجدد أحداث العنف، لها علاقة وطيدة بانتخابات الرئاسة التي تجري الخميس المقبل، ويستدلون في ذلك كون أن أحداث العنف عادت للاشتعال مباشرة بعد زيارة بعض المترشحين أو ممثليهم المدينة لتنشيط حملة انتخابية، نهاية الأسبوع الماضي، الأمر الذي جعل سكان غرداية يكسرون حاجز الصمت، وينزلون، السبت الماضي، في تظاهرة سلمية أمام دار الصحافة “الطاهر جاووت” في العاصمة الجزائر، محمّلين السلطات وقوات الأمن مسؤولية ما يقع من تجاوزات في غرداية.
أصل الحكاية
يتفق الجميع في ولاية غرداية، على أن الأحداث التي تشهدها المدينة وأسفرت عن مقتل رجلين من “أمازيغ” منطقة وادي ميزاب، ليس لها علاقة بالنزاع الطائفي بين سكان المنطقة، الذين ينقسمون الى عرب سنة يتبعون المذهب المالكي، وأمازيغ يتبعون المذهب الإباضي نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، وإنما مردها الى محاولة كل طرف الدفاع عن نفسه وتحميل الطرف الآخر مسؤولية الأعمال التخريبية ضد ممتلكات أتباعه أو المنتسبين الى مذهبه في ظل غياب الدولة، وتضارب حجج كل طرف في شأن الخلفيات، والأسباب الحقيقية في تجدد الصراع بين اتباع الطائفتين مرة كل 5 الى 10 سنوات.
11 قرناً من التعايش
وعلى الرغم من التعايش القديم بين قبيلة شعابنة العربية السنية و”الميزاب” الإباضيين، الذي يعود الى ما يزيد عن 11 قرناً، وهو تاريخ قدوم الإباضيين الى غرداية غداة سقوط الدولة الرستمية، التي كانت تتبع المذهب الاباضي، إلا أن العلاقة بينهما لم تكن في غالب الأحيان مستقرة، وإنما كانت تسودها التوترات، والقلاقل بين فترة وأخرى. خصوصاً منذ القرن الثامن عشر الميلادي.
وإذا أخذنا فترة استقلال الجزائر منذ 1962، نجد أن النزاع بين أتباع المذهبين، تجدّد أكثر من 6 مرات ووقعت أحداث متشابهة أعوام 1973 و1985 و1989 و1990 و2008، وكانت في كل مرة تسقط أرواح وتسجل العديد من الخسائر المادية. وهو ما حدث أيضاً في شهر ديسمبر الماضي، حيث هجم “ملثمون” قيل إنهم من عرب “قبيلة الشعابنة” السنية، على أحد محلات “الميزابيين” ونهبوه، ثم تعدوا بعدها على منازل حي بابا صالح الذي يقطنه “الميزاب”، ومقبرة الحي.
وقد وصلت حصيلة القتلى منذ اندلاع أعمال العنف إلى 10 ضحايا (7 من الميزاب و3من العرب) وسقط مئات الجرحى، فضلاً عن حرق وتخريب المئات من المحال التجارية، والبيوت التي اضطر ساكنوها الى الفرار بجلدهم واللجوء الى المدارس. كما تم توقيف أكثر من مائة شخص أحيلوا على المحاكم وصدرت في حق بعضهم أحكام بالحبس من 3 الى 18 شهراً وبرئ بعضهم. ويوم 22 مارس فقط، أدانت محكمة غرداية، 4 أشخاص تورطوا في الأحداث التي تجددت مطلع شهر مارس/آذار بأربعة أشهر حبساً نافذاً. كما أصدرت المحكمة أحكاماً بالحبس 3 أشهر غير نافذة ضد 10 أشخاص آخرين.
اتهامات متبادلة
تتميز منطقة غرداية منذ القدم كونها ممراً قديماً للقوافل، لذلك فإن الغالبية العظمى من سكانها، لاسيما الأمازيغ الإباضيين منهم يمتهنون التجارة، الأمر الذي جعلهم دوماً في وضع مادي أفضل من العرب، فضلاً عن كونهم مجتمعاً مغلقاً جداً، ويعيش على حالة من التضامن والتكافل الفريد من نوعه، ومع مرور الزمن بدأت تتضح الفوارق، وتتسع الهوة بين العرب والأمازيغ من الناحية الاجتماعية، فولّدت نوعاً من الحساسية المفرطة بينهما، والتي تحوّلت الى صدامات في مناطق التماس بينهما، على غرار حي “مرماد” وحي “الحاج مسعود” وحي “ثنية المخزن” و “بوهراوة السفلى” وحي “المجاهدين”.
الأمر اللافت الذي وقفنا عليه، لدى زيارتنا وسط مدينة غرداية، التي شهدت الأحداث الأخيرة، هو أن فرضية عامل الفوارق الاجتماعية في تأجيج الصراع ، يقتنع بها من تحدثنا إليهم من الأمازيغ الميزابيين، حيث يعتقد محمد كيو كيو، “أن الحسد والغيرة التي يشعر بها العربي تجاه الحياة التي يعيشها الميزابي، هي من أهم عوامل تجدد الصراع بين الطرفين، خاصة وأن عرب غرداية يعانون من الأمية والبطالة، وانتشار بعض الآفات الاجتماعية كالمخدرات”.
ويذهب الشيخ، بلحاج نور الدين، الى ما ذهب اليه، محمد كيو كيو، بقوله “إن النمط المختلف لمفهوم الحياة عند الميزابي والعربي، جعل الضغينة بينهما تكبر مع مرور السنوات، ففي الوقت الذي تجد الميزابي يعتمد على نفسه في توفير ضروريات الحياة، ويهتم بالفقير والأرملة، ويتضامن في تشييد المؤسسات التربوية الخاصة والمساجد من أجل تلبية الحاجة، تجد الفرد العربي يعيش على الاتكالية وينتظر ما تقدمه له الدولة من سكن ومرافق، وهو ما جعل مستوى المعيشة بين الفريقين يتسع، فتولّد نوع من الحساسية بينهما، تحوّلت الى كراهية ومقت للميزابي”.
للعرب رأي آخر
عرب الشعانبة، لهم وجهة نظر مختلفة، فعلى الرغم من أنهم لا يستبعدون أن تكون الفوارق الاجتماعية من الأسباب، التي جعلت المصادمات تتجدد، وتأخذ منحنى تصاعدياً في السنوات القليلة الماضية، إلا أن الأزمة تكمن في الزاوية التي ينظر من خلالها العربي إلى الميزابي ، على أنه دخيل على المنطقة، وليس من السكان الأصليين، ومع الزمن أصبح، الميزابي، يعيش في حقيقة الأمر أفضل من العربي، بسبب النظام المغلق الذي ينزوي فيه. بينما ظل العرب يعيشون كالطفيليين، وهم السكان الأصليون للمنطقة الذين من المفروض أن يكون وضعهم أحسن.
الأمر الذي جعل العرب يلجأون مع تجدد الاشتباكات كل مرة الى كتابة عبارة “ارحل” على جدران الشوارع، وهي دعوة من العرب الى خصومهم بأن المنطقة، هي في الاصل للعرب الذين سكنوها قبلهم، وعلى الامازيغ الاباضيين العودة الى موطنهم تيهرت، (ولاية تيارت حالياً) الواقعة 350 كيلومتراً غرب الجزائر، والتي كانت عاصمة الدولة الرستمية، قبل سقوطها من حوالي 11 قرناً.
ويفسر علي عزا، من العرب السنة في غرداية وجهة النظر هذه بقوله: أصبحنا نحن العرب مع مرور الزمن، كالغرباء في ديارنا، فالميزابي يملك ويستحوذ على كل شيئ، بينما نكتفي نحن بالفتات في غياب عدالة اجتماعية واضحة. فنحن العرب الذين شاركنا في تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي نعيش على الهامش، بينما الميزاب الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد المحتل ينعمون بالعيش الرغيد بفضل نظامهم الذي لا نستفيد منه شيئاً، بل في حقيقة الامر هم المستفيدون من هذا الوضع الذي تتطور فيه تجارتهم، وبقينا نحن مجرد زبائن عندهم”.
ومن المعلوم أن ولاية غرداية فيها 13 بلدية، لكن هناك 5 بلديات فقط يعيش فيها العرب السنة والامازيغ الإباضيون جنباً الى جنب، وهي بلديات غرداية وسط، والعطف، وبونورة، وبريان، وغرارة. و يتولى غالباً تسيير رئاسة المجالس الشعبية لهذه البلديات المختلطة، الميزابيون، الذين يسيطرون عليها منذ عشرات السنين، كونهم يدخلون الانتخابات في كل مرة بقائمة موحدة عكس العرب، الذين تنقسم أصواتهم بين عدد معتبر من الأحزاب وعادة لا تنجح تحالفاتهم، وعليه تعود الأغلبية الى الميزابيين الذين يستأثرون بتسييرها.
فهل تفيق الحكومة، وتحقق العدالة الاجتماعية، حتى لا تتحول مصادمات أبناء الدولة الواحدة إلى فتنة تضاف إليها النزعة الطائفية ثم تصبح ناراً يصعب إخمادها؟