يتزايد الغموض حول الحالة الصحية للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، مما يسهم في إطلاق موجة جديدة من الإشاعات وصلت إلى حد عودة بعض المنابر الجزائرية للحديث عن وفاة الرئيس وليس مجرد تدهور حالته الصحية. وأمام هذه الحالة، يستمر تخبط محيط الرئيس في محاولة التغطية على حقيقة وضع الرئيس العاجز منذ قرابة الأربع سنوات، لاسيما مع تزامن ثلاثة أحداث مترادفة ساهمت في تفاقم حرج معسكر الرئاسة. فمن الإعلان عن تأجيل زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني، مرورا بالاعتذار عن استقبال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وانتهاء بالاعتذار عن استقبال وزير الخارجية الإسباني قبل أيام، بدت جميع الأعذار التي ساقها محيط الرئيس واهية، واستقبلها الرأي العام باستهزاء. كيف لا، والجزائريون اعتادوا على تطبيل إعلامهم الرسمي لأية “إفاقة” لبوتفليقة، ومحاولة إظهاره في مظهر المتعافي، بتصوير تدشينه ومشاركته في أحداث أقل أهمية بكثير من استقبال زوار الجزائر من الزعماء والوزراء.
وهنا، تبرز الرواية التقليدية المعتادة، التي تعزو هذا الغياب إلى “صراع أجنحة” داخل السلطة الجزائرية، والرغبة في ترتيب الاوضاع واختيار خلف له قبل الإعلان عن عجزه أو وفاته رسميا. سيناريو يبدو شديد التهافت بدوره لأكثر من سبب. أولها أنه لم يعد ممكنا الحديث عن أجنحة داخل السلطة الجزائرية، بعد أن اتضح وجود معسكرين رئيسيين: معسكر الرئاسة ومعسكر قيادة الجيش، أما الأجنحة التي يتكرر الحديث عنها فلا تصدق إلى على فرقاء معسكر الرئاسة، المنقسمين إلى أكثر من جناح، مقابل وحدة -ظاهرية على الأقل- لمعسكر الجيش الذي يبدو متماسكا حتى هذه اللحظة. مأزق معسكر الرئاسة في عدم الاتفاق على رأس لهذا المعسكر مع تردد أسماء شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة، ومدير ديوانه أحمد أويحيى، ورئيس وزرائه عبد المالك سلال، ومن يدور في فلكهم من رجال أعمال ووسائل إعلام وقيادات سياسية في الموالاة والمعارضة.
أحد مظاهر هذا الإفلاس، الذي يؤكد عمق الأزمة التي يتخبط فيها معسكر الرئاسة وأطراف السلطة التنفيذية المرتبطة به، في سعيهم لسد عشرات الثقوب التي انفجرت في آن واحد داخل جنبات المركب الذي يضمهم، هو الموقف من النجاحات الدبلوماسية التي حققها ويحققها المغرب على الصعيد الإفريقي والدولي. فأمام الشراكات الاقتصادية التي نجح العاهل المغربي الملك محمد السادس في إقامتها مع أبرز دول القارة، حاولت السلطة الجزائرية مواجهتها “بمؤتمر” سرعان ما تحول إلى مهزلة. وأمام الانهيارات المتسارعة في صفوف جبهة البوليساريو، وتأكد دنو أجلها سياسيا على المستوى الأفريقي والأممي، تدفع السلطة الجزائرية بعض عناصر الجبهة إلى محاولة استعراضات مضحكة للقوة في منطقة الكركرات، سرعان ما وضعتهم في مواجهة مباشرة مع الأمم المتحدة. وأمام اقتراب يد الإرهاب وداعش المحيطة بالجزائر من الشرق والجنوب، عبر ليبيا ومالي والنيجر، وكشفها عن وجهها في تفجير قسطنطينة الإرهابي، حاولت وسائل الإعلام المرتبطة بمعسكر الرئاسة، ولا تزال، إلصاق تهمة هذا الخطر الإرهابي بالمخابرات المغربية، بمبررات كل واحد منها أكثر سخافة من الآخر.
ما يعلمه الجزائريون قبل غيرهم، أن “فن” صناعة الجماعات الإسلامية المتشددة، والتي تنشط عبر منطقة الساحل والصحراء هي صناعة جزائرية خالصة، يحمل براءة اختراعها “كبيرهم الذي علمهم السحر” الفريق المخلوع محمد مدين (توفيق)، عبر رجالاته وأبرزهم الجنرال عبد القادر أيت وعراب (حسان). جماعات مارست إرهابها خلال العشرية السوداء تجاه مواطنيها في البداية، قبل أن تتحول إلى عصابات عابرة لإفريقيا جنوب الصحراء. فأن تأتي السلطات الجزائرية وأبواقها الإعلامية الآن، لتحاول يائسة إلصاقها بجهاز المخابرات المغربية، فهو الأمر الذي لن ينطلي على الرأي العام المحلي ولا الأفريقي، حتى لو اخترعوا كل يوم قصة جديدة، وآخرها الحديث عن ارتباط صحفيين موريتانيين بجماعات إرهابية تنشط في مالي، تشغّلهم لصالح الاستخبارات المغربية!!!
ندرك أن “الرتق قد اتسع على الراتق”، وأن معسكر الرئاسة الجزائرية، أمام الغياب الرمزي والفعلي لرأسه العاجز، والحرب المعلنة والخفية بين أقطابه، يتخبط عاجزا أمام الألغام التي انفجرت في وجهه دفعة واحدة، ونتفهم كذلك، أن سياسة “تصدير الأزمة” واختلاق أزمات صغيرة للتغطية على الأزمات الأكبر، هو السلوك المعتاد لكثير ممن يجدون نفسهم في مثل هذه الحالة، لكن نعتقد بالمقابل، أن دور الجيش الجزائري في هذه اللحظة الفارقة هو عنصر الحسم، لمنع جر البلاد إلى سيناريوهات ستزيد من كلفة الفواتير التي ستدفعها الأجيال المقبلة، من قبل جماعة فقدت بوصلتها وصوابها، بعد أن أفاقت على واقع لم يعد قابلا للإصلاح. وعليه، نتوقع أن اللحظة التي سيتدخل فيها الجيش لمحاولة وضع الأمور في نصابها تقترب، بل ربما صارت أقرب كثيرا مما يحلم مؤيدوها ويخشى معارضوها. ومعها، ندرك أن أهم بوابات الإصلاح في الجزائر الجديدة، هي بوابة إصلاح العلاقة مع الشقيق المغربي، الذي سيجدون فيه خير عون على مواجهة معركة بناء مستقبل جديد لجميع الجزائريين وأبناء المغرب الكبير.