بعد العودة المظفرة للمغرب إلى البيت الأفريقي، وبالطريقة التي تمت، والتي أحسن العاهل المغربي وصفها بأنها “عودة من الباب الواسع”، تجد السلطات الجزائرية وصنيعتها البوليساريو نفسها في أزمة خانقة، ليس أدل عليها، الطريقة البائسة المرتبكة التي حاولت من خلالها التخفيف من وقع الصدمة، والتغطية على خيبتها أمام الرأي العام المحلي.
يمكن وصف مسار العودة المغربية للاتحاد الأفريقي- باستعارة عنوان رائعة الكاتب الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز- بأنها “أحداث عودة معلنة”، بدأت في قمة كيجالي قبل ستة أشهر، ورفع من خلالها الملك محمد السادس تحدي “عائدون”، منطلقا من إيمانه بعدالة قضيته، وثقته بالمكانة التي يحتلها المغرب وسط أشقائه الأفارقة. وهكذا، وعلى مرأى ومسمع خصوم وحدته الترابية، جاب العاهل المغربي القارة شرقا وغربا، ناشرا الخير ومدشنا المشاريع التي تعود بالنفع الحقيقي على مواطني القارة، تاركا لخصومه تكرار “الشعارات الفارغة” المطمئنة لرأيهم العام المحلي، دون أن يملكوا صنع أي شيء بالمقابل لمواجهة العمل المغربي على الأرض.
ورغم توالي إعلانات الدول الأفريقية عن دعمها لعودة المغرب، وتأكد أنه قد حصل على موافقات مكتوبة من أزيد من ثلثي دول القارة، بقيت الدبلوماسية الجزائرية ووسائل الإعلام المرتبطة بها تؤكدان، حتى صباح يوم التصويت، أن الطلب المغربي لا يحظى سوى بتأييد “أقلية غير وازنة” داخل الاتحاد، بل ودرجت صنيعتها البوليساريو على التأكيد أن المغرب في أزمة خانقة بعد رفض طلبه من غالبية الدول الأفريقية “وفاء لمبادئها في مناهضة الاستعمار”!! مكررة نفس الروايات التي اتضح بالملموس حجم وأهمية المؤمنين بها على الصعيد القاري والدولي!.
وبقدرة قادر، وبعد دقائق من إعلان حصول المغرب على الأغلبية المطلقة للعودة، تبارى وزير الشؤون الأفريقية الجزائري عبد القادر مساهل، وصنيعته وزير خارجية جمهورية الوهم، في التأكيد على أن العودة المغربية إنتصار كبير للقضية الصحراوية!!! والانتقال، دون حياء، من موقع الدعم المكشوف لوزيرة الخارجية الكينية الخاسرة لمنصب رئاسة المفوضية أمينة محمد، إلى محاولة تصوير أن الوزير التشادي موسى فاكي الفائز هو مرشحهم!! وأخيرا المحاولة اليائسة لاستغباء الرأي العام و “تغطية الشمس بالغربال” عندما أصروا على أن مفوض السلم والأمن الجزائري إسماعيل شرقي “رفض القيام لمصافحة العاهل المغربي” رغم أن الفيديو يظهر بوضوح أنه كان في غاية الارتباك، يطيل الالتفات مبتسما نحو الملك محمد السادس راجيا التفاتة ملكية، لم تأته، وخائفا في نفس الوقت من وزير بلاده الأول الجالس في مقاعد الوفود، والتطبيل بعدها “لنصر دبلوماسي مؤزر” لهذه الواقعة البائسة. كل ذلك ترك وسائل إعلامهما ورأيهما العام في حالة تتراوح بين الصدمة والسخرية، حتى من أشد المؤمنين والمدافعين عن هذه القضية المفتعلة. لقد اجتهدت الجزائر والبوليساريو بما أوتيا من قوة حتى اللحظة الأخيرة، في مقاومة العودة المغربية، مدعمين بثمانية حلفاء فقط، ليوضحا بعدها مباشرة أن هذه العودة التي قاوماها كانت في حقيقتها انتصارا لهما وهزيمة للمغرب، وهو الأمر الذي يدلل على إفلاس كل من عملوا ضد هذه العودة.
بؤس المقاربة التي تعتمدها السلطات الجزائرية المتنفذة، بدأ مبكرا عندما سارعت إلى الرد على المشاريع التنموية المغربية في أفريقيا بتنظيم منتدى أفريقي للاستثمار، تحول بدوره إلى فضيحة من العيار الثقيل، عندما تنازع وزيرهم الأول عبد المالك سلال، مع رئيس الباطرونا الجزائرية علي حداد، خلال الجلسة الافتتاحية، أمام مرأى ومسمع مئات الحاضرين الذين تم جمعهم على عجل وكيفما اتفق، الأمر الذي دفع الحكومة إلى مقاطعة أعمال المنتدى، الذي أريد به محاولة لحاق الجزائر للمغرب في دبلوماسيته النشطة.
الآن، وبعد أن فضحت قمة أديس أبابا الوضع الكارثي للبوليساريو وداعميها، أصبح من شبه المستحيل على أبواقهم الإعلامية اختراع روايات ومقاربات جديدة بإمكانها التغطية على انتصار المغرب البين، وأصبحت واضحا للعيان لجميع هذه الأبواق، أن مسألة إخراج جمهورية الوهم من البيت الأفريقي، ورميها على قارعة الصحراء في أحضان الجزائر، هي مسألة وقت ليس إلا، أمام خصم مغربي يتقن سياسة النفس الطويل، ولا يتعجل النتائج، ويعمل من أجل قضيته الوطنية بشكل مدروس ومحكم. وإذا أضفنا أن الاحتفاظ بالدول الثمانية الداعمة قد أصبحت متعذرة بعد الآن، بعد تردد الكثير منهم أمام تكلفة الاستمرار في العناد. ولعل مثال أنغولا التي كانت حتى هذه اللحظة من المشاكسين للقضية الوطنية في أروقة مجلس الأمن، قبل أن تستنكف عن مجاراة الدول الثمانية بالتعبير عن رفضها لعودة المغرب. نفس الموقف ينتظر أن يتكرر مع كينيا وأوغندا، بعد الانفتاح المغربي على دول شرق القارة، حيث يبدو واضحا لقطب هذه المنطقة، كينيا، أن الاستمرار في “الفرجة” على التمدد الأثيوبي في محيطها بمساعدة ودعم مغربي قويين، من شأنه أن يزعزع الأرض تحت أقدامها، ولا بد من مواجهته بمد اليد للمغرب من أجل الاستفادة مما يطرحه من فرص تنموية واعدة.
وعليه، فما هي إلا مسألة أسابيع حتى تستفيق الجزائر على واقع أن من تبقى من داعمين لمنطقها “الأعوج” أصبح لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ويقتصر عمليا على جنوب أفريقيا، وأربع دول محيطة بها، معرضة بدورها لتغيير مواقفها عند أي تغيير ديمقراطي يسهم في تخلصها من قياداتها التسعينية التي تتفرد بمقاليد الحكم في بلادها منذ الاستقلال. وحتى جنوب أفريقيا نفسها، فمن غير المستبعد، ببراغماتية رجال أعمالها، أن تعيد النظر في مواقفها، وتختار التعاون بدل المواجهة مع المغرب الذي أصبح يزاحمها على مركز الريادة في الاستثمار في القارة السمراء.
خلاصة القول، أن السلطات الجزائرية تجد نفسها اليوم في موقف لا يترك لها مجالا، إن هي أرادت الحد من خسائرها الكارثية في ملف الوحدة الترابية المغربية، وتجنب هزيمة ماحقة، سوى الاستماع إلى صوت العقل والمنطق، والتوقف عما أسماه العاهل المغربي، وبحق، “خيانة” أحلام شعوب المغرب الكبير في الوحدة والاندماج، والجلوس مع أشقاء الدم والكفاح، لإنهاء هذا العبث المدمر لمنطقة بأكملها، ليس بين شعوبها أية حساسية تمنع المضي قدما في تلبية طموحاتها في العيش المشترك والكريم.
إن الغياب التام لأية بدائل للتفاهم بين المغرب والجزائر، وأولها الخيار العسكري الذي تدرك القيادة الجزائرية قبل غيرها سرابيته وتعذر اللجوء إليه، وتعلم يقينا أن بضع عشرات من المرتزقة لن يكون بمقدورهم زعزعة استقرار المغرب المتواجد في صحرائه على مدى قرون، هذا ناهيك عن الحاجة الملحة لمواجهة التهديد الامني المتمثل في الجماعات الإرهابية المنتشرة على حدود الجزائر الشرقية والجنوبية، وكذا عدم قدرة الاقتصاد الجزائري المنهك والمتقادم على تقديم أية أوراق قوة للقيادة السياسية، كلها عوامل لا بد وأن تدفع المتحكمين في قصر المرادية إلى فتح قنوات اتصال مع أشقائهم المغاربة، ووضع جميع الملفات العالقة بين البلدين على الطاولة، والتفاهم بشأنها بروح الأخوية والإيمان بالمصير المشترك.
فهل تفتح اللحظة التاريخية التي عشناها في أديس أبابا، الباب أمام مراجعة حسابات عميقة لدى الأشقاء في الجزائر، ويقررون أخيرا مد يدهم لإخوتهم في المغرب، من أجل شراكة استراتيجية، لا غالب فيها ولا مغلوب، تكون قاطرة لتحريك الاندماج المغاربي، وتاليا، إعطاء النموذج الذي يعيد الأمل والحياة إلى باقي أرجاء وطننا العربي المثخن بالجراح؟! نتمنى صادقين أن لا تتأخر هذه اللحظة، التي نؤمن يقينا بأنها قادمة لا محالة.