احتلت للمرأة الأمازيغية مكانة عظيمة في المجتمع المغربي، ودورا هاما في الحياة السياسية، حيث أشارت جل الدراسات الانتروبولوجية والتاريخية إلى تقلد النساء الأمازيغيات أدوارا سياسية بارزة، على رأسهن الأميرة كنزة الأوربية ، التي لا تزال خالدة إلى يومنا هذا في الكتب والوثائق التاريخية.
تميزت الأميرة كنزة الأوربية بحكمتها ورجاحة عقلها وحنكتها التي مكنتها من الحفاظ على كرسي الحكم لجنينها حتى سن الحادية عشرة سنة بعد مقتل زوجها المولى إدريس الأول، مؤسس أول دولة إسلامية بالغرب الإسلامي، مسموما.
بدأت قصتها مع نهاية القرن الثاني الهجري، عندما قدم المولى إدريس هاربا من بطش أبناء عمومته العباسيين حاملا معه رسالة آل البيت لينشرها في المغرب الأقصى، التي ابتدأها من مدينة طنجة التي قال فيها كلمته وأوصل رسالته إلى عدد من القبائل الأمازيغية محققا بذلك نتائج إيجابية خاصة بعد التفاف عدة قبائل به.
تمكن المولى إدريس من الحصول على موقف جماعي من قبائل الامازيغ بالمنطقة، خاصة من قبيلة أوربة التي اعتبرت أهم قبيلة وأشدها في المغرب، ما دفع المولى إدريس إلى التوجه صوب وليلي التي تمت بها مبايعته سنة 172 هـ من طرف قبائل زناتة زواغة وغمارة ومكناسة وغيرها.
هذا ونظرا لرجاحة عقل المولى إدريس وشجاعته، تمكن من تحقيق انتصارات كبيرة في المنطقة، حيث فرض سيطرته في أقل من عامين على “تامسنا” و”تلمسان” و”تادلة” والأطلس المتوسط، ما جعله قائدا محنكا بامتياز.
ولعل قبيلة أوربة لم تكتفي فقط بتقديم البيعة لهذا القائد الشاب، بل قررت مصاهرته بتزويجه ابنة زعيم القبيلة كنزة الأوربية في 174 هـ بمهر حدد في 600 دينار حينها.
تميزت الأميرة كنزة بالجمال والحياء ورجاحة العقل والدين، حيث كانت خير السند لزوجها الذي توفي متسمما بعد فترة قصيرة من زواجهما نتيجة تمدد سيطرته في المغرب، الأمر الذي شكل مصدر تهديد لهارون الرشيد الذي أرسل إليه عبد الله بن جرير الذي لقب بـ “الشماخ” من أجل التحايل عليه قبل تسميمه.
ظنت الدولة العباسية أن القضاء على المولى إدريس أنهى نسل الأدارسة من المغرب، إلا أن الأميرة كنزة كانت حاملا حينها في شهورها الأولى، ما دفعها إلى البروز إلى الواجهة من أجل الحفاظ على ملك جنينها.
انتظرت القبائل الأمازيغية التي بايعت المولى إدريس، والدولة العباسية أيضا تسعة أشهر لمعرفة جنس الوليد، الذي جاء ذكرا ليحافظ على ملك أبيه ويكمل الرسالة التي بدأها هذا الأخير برعاية من والدته.
تحلت الأميرة كنزة بعد وفاة زوجها بالقوة والشجاعة واستحضرت رجاحة عقلها من أجل الحفاظ على حقوق ولدعا كاملة، حيث عملت على تدبير انتقال الحكم إلى ابنها إدريس الثاني وإعداده لتحمل عبء المسؤولية، إلا أنه وبعد مقتل والدها ورفيق زوجها، سارعت الأميرة الأوربية إلى أخذ البيعة من القبائل الأمازيغية التي نصبت المولى إدريس الثاني مكان والده وهو في سن إحدى عشرة سنة.
عمل المولى إدريس الثاني بإرشاد من والدته، على إكمال رسالة والده إتمام بناء عاصمة دولته مدينة فاس، متجاوزا الحدود التي وصلها والده، ما جعله مصدر قلق وتهديد للدولة العباسية، التي كانت تترصد خطاه لاغتياله.
مات المولى إدريس الثاني بشكل مفاجئ سنة 213 هـ وهو في سن ستة وثلاثين سنة فقط، ما دفع بوالدته الأميرة كنزة إلى الإشارة لحفيدها البكر بتعيين إخوته الثمانية عمالا على المناطق التي سيطرت عليها دولة ابنها حفاظا على حدودها.
تشهد الوثائق التاريخية على الدور الكبير الذي لعبته الأميرة كنزة الأوربية في إقامة أول دولة إسلامية بالمغرب الأقصى، ما يجعلها من أعظم النساء في “التاريخ المغربي” عموما وقبيلتها خصوصا.