قبل خمس سنوات بالتمام والكمال، ازدانت ميادين مصر الكنانة بملايين المحتجين، الذين هبطوا ليقولوا لا للظلم، ويكتبوا نظرية جديدة في التغيير، في نطاق ما اصطلح “سذاجة” على تسميته “بالربيع العربي:، واصطلح “لؤما” على تسميته “بالخريف العربي”، مع أن الأقرب للمنطق والسياق أن يكون ما بينهما هو المصطلح: الشتاء العربي !!
فشتاء 2010-2011 كان عربيا بامتياز، عندما هبت رياحه محملة بالوعد، على كامل الجغرافيا العربية. رياح لبدت السماء في بعض الدول العربية دون أن تهطل زخة مطر واحدة، بينما أمطرت رذاذا في بعضها الآخر، وتحولت إلى عواصف وأعاصير تكاد تقتلع الوطن نفسه من جذوره، نظرا لشراسة مقاومة قوى الاستبداد لتوق الناس إلى الحرية والكرامة.
ولأننا في يناير المصري، سنحاول قصر حديثنا على مصر الكنانة دون غيرها، والتي عاشت الفوضى الأكبر، والارتجال الأبرز، وتخبطت ولا تزال بين ثورتي يناير ويونيو، وما حركهما من قوى وعبث بهما من متآمرين. إن الخلل الأبرز في ما يجري في مصر منذ الثورة الأم، يكمن في انشداد الناس إلى أمور سطحية والابتعاد عن كل ما هو جوهري، يستوي في ذلك قوى الثورة على اختلاف أطيافها، والثورة المضادة بمختلف مسمياتها. إن هدر الوقت في محاولة تصنيف نزول الناس إلى الشوارع في يناير 2011 ويونيو 2013، والتنازع على لقب ثورة، والاهتمام الشكلي بإيرادها في ديباجة الدستور، وما يرافق ذلك من سجال لم يترفع إلا القليل من العقلاء عن الخوض فيه، كلها أمراض تكاد تكون مشتركة بين مختلف الفاعلين، وكأنما هي عرض لأمراض نظام حسني مبارك التعليمي، بل وقبله بكثير، والذي يعلي من قيمة كل ما هو سطحي وشكلي، ويحرف انتباه الناس عما هو جوهري ومفيد.
إن انقسام القوى السياسية في مصر بين “مناصر لشرعية الإخوان” و “مناهض لحكم الجماعة”، بين “محبي مرسي” و “مغرمي السيسي”، سيبقى المجال مشرعا أمام استمرار مقايضة الأمن بالخبز، ويبقي الكلمة العليا في يد بضع أجهزة أمنية “تحارب الإرهاب” في كل مكان، وتدوس في حربها هذه على أبسط مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي يد حفنة من رجال الأعمال، ينتمي معظمهم إن لم يكن كلهم إلى حقبة المخلوع مبارك، ويتم استجداء كرمهم في التخفيف من الضائقة الاقتصادية ولو على حساب القانون.
إن الهروب من حقيقة أنه لا محبي مرسي، ولا فلول مبارك، ولا مناصري السيسي، يمكنهم إغفال أن ثورة يناير بقيت بدون نظام يتبناها، ويعمل حقيقة على تلبية مطالبها. فلا الرئيس مرسي، ولا الرئيس السيسي في وارد تبني ما طالبت به الجماهير في الميادين المصرية خلال يناير 2011. فحديث أن جماعة الإخوان قامت بالتصرف كمن “يسطو” على ثورة يناير، واهتمت بوراثة نظام مبارك دون إجراء تغييرات حقيقية عليه، هو حديث يحمل جانبا كبيرا من الصحة، ومثله حديث أن القوى التي ناصرت السيسي هي في معظمها جزء من نظام مبارك ولا تمت لثورة يناير بصلة، وأن علاقتها بثورة يونيو 2013 لا يعدو كونه توظيفا لثورة ضد ثورة، أكثر مما هو استكمال ثورة بثورة، أو تصحيح إحداهما بالأخرى.
إن استمرار الانشغال بهذا الجدل والبحث عن المشروعية، دون الالتفات إلى مسببات ما أنزل الناس إلى الشوارع والميادين في يناير ويونيو، يعيدنا دائما إلى المربع الأول. أما البديل الأنضج فهو إجراء القوى السياسية داخل فريقي يناير ويونيو، وعلى رأسها الإخوان المسلمين لمراجعة جذرية لتصوراتها السياسية، مراجعة تقودها إلى الانحياز للمصالح الحقيقية للناس، والتي تجسدت في المبادئ والشعارات الكبرى التي نادت بها ثورة يناير العظيمة، وبما يجب أن يقود حتما إلى “تكسير” أسس نظام الاستبداد التي ترسخت على مدى عقود بل وقرون الملكية والدكتاتورية التي تعاقبت على حكم مصر، وليس فقط عقود الجمهوريات من عبد الناصر حتى السيسي. مهمة قد تبدو مغرقة في المثالية، ويصعب على الكثيرين تخيل إمكانية حدوثها، لكن الطريق الذي خطته ثورات الشتاء العربي، أوضحت بالملموس أنها ممكنة، وأن من يكرسون “وهم” استحالتها هم المتضررون من نتائجها، في أي معسكر كانوا.
إن الحكم المتسرع بأن السماء العربية لن تجود بمزيد من الغيث، هو حكم ناتج عن أماني وتصورات أناس عجزة ومحبطين، لا يقدرون حقيقة إمكانيات إنسان هذه الأرض، ناهيك عن كونهم عديمي خبرة في أحوال الطقس، فما نراه في سماء منطقتنا من بروق ورعود، لا يحجب عن بصائرنا رؤية عشرات طيور “السنونو” التي تنبئ بقرب مجيء المطر، ناشرا الخير والرخاء، وإن اعترضته بعض العقبات، وتأخر لبعض الوقت.