(كنا مع بعض إخوان لنا من طنجة نعتزم زيارة للبروفيسور سيدي المهدي المنجرة رحمه الله أواخر عام 2011 وكنتُ دائما أحب أن أترجم مشاعري تجاه هذا الأستاذ العظيم والمغربي الفذ .. فكانت هذه الزيارة حافزا للقصيد .. ثم حيل بيننا وبين الفقيد لظروفه الصحية .. فبقيت هذه القصيدة عندي تترقب .. حتى جاء نعيه بالأمس رحمه الله .. فعدت إليها وقلت لا داعي للرثاء فمثله لا يرثى وإنما الرثاء لمن فوتوا عليهم وعلى المغاربة فرصة الاستفادة منه وإنزاله حيث يستحق .. ولكن نحمد الله الذي لا يضيع أجر المحسنين .. ولا حول ولا قوة إلا بالله)
لا رَيْبَ عِنْدي .. أنَّ نَجْماً غائِبا .. لا بُدَّ تُلْفي مِنْهُ ضَوْءاً سارِبا
وَبِأنَّ وَجْهَ البحرِ لاحَ مُهادِنا .. لا بد في الأعماق يَغلي غاضِبا
وبأنَّ لحنا أُخْفِتَت نَغماتُه .. لا بد يَهْدِرُ في الحَنايا صاخِبا
وبأنَّ لَحْظاً أزْوراً مُتَنَمِّراً أنْكى منَ السّيفِ الصَّقيلِ مَعاطِبا
لا ريبَ عندي .. أنَّ ليلاً جاثِماً .. لابُدَّ يَجري للزَّوايا هارِبا
وبأنَّ أبواقَ الضَّلالَةِ لا تَعي أنَّ الزَّمانَ يُرى بِها مُتَلاعِبا
وبأنَّ حُرًّا يَكْتَوي مُتَأوِّهاً مِنْ خُلْفِ أعْداءِ البِلادِ مَصائِبا ..
لا بُدَّ مُنْتَفِضٌ إذا وُجْدانُهُ شاءَتْ لَهُ الأقْدارُ فَجْراً آيِبا
لا ريْبَ عِنْدي -سَيِّدي – أن المُنى في قلبِكُم تَطَأُ السَّحابَ مَطالِبَا
وبأنَّ همتكم على هامِ الجبالِ تعافُ أخْماصاً تَضِجُّ رَغائِبا
وبأنَّ أعماقَ الضَّميرِ لَدَيْكُمُ كالمِسْكِ يَنْشُرُ ما طَواهُ أطايِبا
لا غَرْوَ ..
فَيْضُ الكاسِ جَنْيُ رَحيقِها ..
يا مُتْرَعاً بالفَضْلِ فاضَ مواهِبا
يا سَيِّدي .. نَفَسوا عَلَيْكَ مواهِبا .. سيقَتْ لِكَيْ تُهْدي البِلادِ مكاسِبا
قَدْ طَوَّقوكَ .. وما وَعَوْا أنَّ الحَقائِقَ في الْقيودِ تَسيلُ حِبْراً لاهِبا
وبأنَّ زَحْفَ النورِ يُبْطِلُ كاشِفا سُدُفَ الطغاة .. وَيَمْتَطيها غالِبا
جَهِلوا ..
ولَوْ عَلِموا لَكَانُوا غَيْرَهُمْ ..
ولَشاهَدُوا نَجْمَ الْبِلادِ الغائِبا
يا سَيِّدي الْمَهْدِيِّ واسْمُكَ مُنْصِفٌ مِنْكَ الزَّمانَ إذا جَفَاكَ مُحارِبا
أنْضَى تَنَكُّرَهُ .. يُساقي مُهجَةً ليسَتْ تُعَدِّدُ في الحُقوقِ مَشارِبا
فَلِذا تَضيقُ بها بلادٌ لَمْ يَزَلْ فيها الأباعِدُ يَغْلِبونَ أقارِبا
وَلِذا رَحَلْتَ ..
وأنْتَ مَهْدِيٌّ بِهِ
وأقَمْتَ تَقْضي فيهِ حَقًّا واجِبا
يا سيدي .. والكُتْبُ تَعْرِفُ صَحْبَهَا .. لكَ دائما كانَ الكِتابُ مُصاحِبا
قَدْ هادَنَتْكَ حُروفُه .. بَلْ عانَقَتْ فيكَ النَّديمَ الْمُسْتَزيدَ السَّاكِبا
سَخِرَتْ منَ الأسْفالِ إذْ شُغِلوا بِمَا أوتُوا مِنَ الدُّنْيا مَتاعاً ذاهِباَ
ضَحِكَتْ بِمْلْءِ الفِيهِ مِنْ ألقابِهِمْ وتَنابُزٍ فَخْراً سَخيفاً كاذِبا
وتَهَيَّأَتْ لكَ
كَيْ تُحيلَ مِدادَها ذَهَباً
لأنَّكَ كُنْتَ أنْتَ الكاتِبا
يا سيدي .. قَدْ كنتَ زَرْقاءَ اليمامَةِ أنْذَرَتْ يوماً شديدا حاصِبا
وَتَأمَّـلَتْ في الأفْقِ يَبْدو رائِقاً .. فَرَأَتْ دُخَاناً خَلْفَهُ وَنَوائِبا
صَرَخَتْ بِعُمْيٍ .. لَمْ يَرَوْا أهْوالَهُ.. صُمٍّ .. يَرُدُّونَ المُنادي خائِبا
غُلْفٍ .. رَأواْ دَمْعاً يُطَرِّزُ خَدَّها .. والكُحْلَ مِنْ بَيْنِ الدموعِ مُعاتِبا
فَتَشاغَلوا عَنْها وَعَمَّا أنْذَرَتْ .. ناموا .. وباتَ الهَوْلُ يَدْأبُ ساغِبا
إنْ كُنْتُ أحْسَبُني مَدَحْتكَ فالزَّمانُ أتاكَ يُثْني بالحَوادِثِ ..تائِبا
نَبَّهْتَهُ حتّى اسْتَوَتْ أقلامُهُ في كَفِّكَ المَبْروكِ سَيْفاً ضارِبا
وكَما حَكَمْتَ: هَوَتْ عُروشٌ لَمْ تَزَلْ أوثانُها فينا الدهورَ نواصِبا
فاهْنَأ بأيامٍ رأيتَ -كما حكمتَ- لَها الشَّبابُ مَضواْ شِهاباً ثاقِبا
واعْجَبْ لِمَنْ عَرَفوكَ !
كيفَ تَغافَلوا؟
وَلِمَ اعْتَلى مِنَّا السِّفالُ مَناصِبا؟
يا عاشِقاً .. مِنْ أمَّةٍ قَسَماتِها .. لَحْناً سَنِيًّا أوْ قَصيداً لاهِبا
وَدَمًا جَرى مِسْكاً .. وفكرًا ثائرا .. ومآذِنًا مِثلَ النَّخيلِ نواصبا
يا عاشِقاً .. والعِشْقُ مَحْرَقَةُ الحَشَى .. أبْدَعْتَ في حبِّ البلاد عجائبا
وحَفِظْتَ قلبَكَ للشَّبابِ فلم يَزَلْ نَضِراً وإنْ صَبَغَ البَيَاضُ ذَوائِبا
وَجَعَلْتَ عُمْرَكَ لِلْغَدِ الآتي فِدًى .. فَقَطَفْتَ مِنْ غُصْنِ الخُلودِ كواكِبا
وَكَتَبْتَ إسمَكَ في مَجرَّةِ مَنْ سَمَواْ للذَّارياتِ
فَكُنْتَ نَجْماً ثاقِبا
يا سيدي .. ولكَ الفضائِلُ سُخِّرَتْ كَرَمًا وجودا سابِغا ومَناقِبا
يا أيُّها الشَّافي الفُؤادَ بسيرَةٍ تُحيي النُّفوسَ .. وَكُنَّ قَبْلُ خَرائِبا
تَدَعُ الذي نَسِيَ البلادَ وأهلَها .. قَيْسًا بِلَيلى ذاهِباً أو آيِبًا
تَتَشَذَّبُ الآمالُ فيكَ كَريمَةً .. وَتُطاوِلُ العَلْياءُ مِنْكَ مَناكِبا
طنجة 2011
وقد زيد هذان البيتان مع خبر النعي
(واليومَ نَعْيُكَ ليس نَعْيَ مُفارِقٍ .. بَلْ نَعْيَ لاهٍ كانَ غِرًّا لاعِبا
ما ماتَ مِثْلُكَ .. بلْ تَفَتَّحَ بُرْعُمًا .. وَعلَيْهِ ذِكْرُكَ مالَ غُضْنًا حادِبا)