النخب الحزبية والأداء البرلماني في المغرب

تنطوي دراسة النخبة في أي مجتمع على أهمية كبرى باعتبارها تسمح بفهم وتفسير السلطة السياسية داخل الدولة، ويكتسي موضوع النخب على اختلافها في المرحلة الراهنة، مغربياً وعربياً، أهمية كبرى بالنظر للأدوار الطلائعية التي يفترض أن تتحملها على مستوى توجيه الأحداث وتعزيز مسار الإصلاح السياسي.
ويتبوأ البرلمان مكانة متميزة في النظام السياسي والدستوري للدول بالشكل الذي يجعل منه أحد المقوّمات الأساسية للدولة الحديثة، فإلى جانب مهامّه المرتبطة بالتشريع وإعمال الرقابة على العمل الحكومي ورسم السّياسات العمومية للدولة، تحظى الهيئات التشريعية في مختلف الأنظمة الدستورية ببعض الصلاحيات المرتبطة بالشأن الدبلوماسي، الأمر الذي يفترض احتضانه لنخب كفؤة قادرة على تحمل هذه المسؤوليات بصورة فعالة.
وإذا كانت هذه الفعالية تسائل قواعد اللعبة السياسية ومدى قدرتها على إفراز نخب برلمانية في مستوى المهام التي تحظى بها هذه المؤسسة في زمن تعقّدت فيه القضايا الاجتماعية والسياسية، من حيث ضمان شفافية ونزاهة العملية الانتخابية وترسيخ مبدأ المساواة وقيم المنافسة، فإنه يسائل في الوقت نفسه الأحزاب السياسية، باعتبارها أساساً لكل عملية ديمقراطية مفترضة، ومدى قدرتها، أو رغبتها في تزكية واقتراح النخب المناسبة في الانتخابات التشريعية بناء على معايير موضوعية مبنية على الكفاءة والرصيد النضالي للعضو؛ بما يمكن أن يدعم أداء مؤسسة البرلمان بغرفتيه.
عرف العمل البرلماني المغربي، بغرفتيه، في الآونة الأخيرة نقاشات سياسية طرحت أكثر من سؤال؛ بسبب تدني مستوى الخطاب واتخاذه طابعاً من السب والشتم بين نخب حزبية محسوبة على المعارضة وأخرى على الحكومة، في مرحلة سياسية حبلى بالتحديات والانتظارات في علاقة ذلك بمقتضيات دستور 2011؛ وتجاوز المعضلات الاجتماعية ومواجهة مظاهر الريع والفساد.
والواقع، فإن هذا الأمر يسائل في العمق مسؤولية الأحزاب السياسية باعتبارها مشتلاً مفترضاً لإعداد النخب البرلمانية؛ كما تسائل الدولة من حيث توفير الشروط اللازمة لإفراز نخب ذات كفاءة في مستوى الإشكالات المختلفة المطروحة.
وعلاوة على ذلك، لا تخفى الإشكالات التي يطرحها تفشي ظاهرة العزوف السياسي في هذا الصدد، سواء على مستوى الانتماء للأحزاب السياسية أو الاهتمام بالشأن السياسي أو المشاركة في الانتخابات التشريعية والمحلية.
إن أزمة تجدّد النخب الحزبية لا يمكن أن نفصلها عن الحالة المزرية التي تعيشها معظم الأحزاب، والواقع أن عدم التجدّد أو حدوثه ببطء، يفوّت على الأحزاب نفسهاً أو على البرلمان فرصة التّطور، عبر الانفتاح على كفاءات نخب جديدة تسمح لهما بمواكبة التحولات المجتمعية، وبتغذية نفسيهما بأفكار ونفس جديدة.
لا تخفى الاختلالات التي تعيش على إيقاعها العديد من الأحزاب السياسية، في علاقة ذلك بتهافت عدد منها على استقطاب الأعيان خلال الانتخابات وتهميش الكفاءات؛ إضافة إلى اعتماد تحالفات «شاذّة» تتحكم فيها الآنية والمصالح الضيقة وضمان بقاء واستمرارية هذه النخب، وتغييب الآليات الديمقراطية في تدبير قضاياها واختلافاتها الداخلية وتجدّد نخبها، كما ظلّت العديد منها تدبّر ماليتها بانغلاق تغيب فيه الشفافية؛ وهو ما أكدته تقارير المجلس الأعلى للحسابات (قضاء مالي) الواردة في هذا الصدد.
ومما يثير الاستغراب هو عدم اعتماد الصرامة من قبل بعض الأحزاب في التعاطي مع أعضاء متورطين في قضايا فساد، بما يشكل تطبيعاً مع هذا الأخير.
ويبدو أن نأي عدد من الأحزاب عن فضاء الجامعة التي كانت مصدراً لتجدّد النخب المتمكنة وذات الرصيد النضالي، أثّر بشكل كبير في تراجع هذا التجدّد، وهو الدور الذي لعبته الجامعة إلى حدود نهاية الثمانينات من القرن المنصرم؛ حيث كان لها دور كبير في حضور وتعزيز مكانة الأحزاب داخل المجتمع وانفتاحها على قضاياه.
ولا تتوانى الكثير من الأحزاب السياسية في اختلاق ذرائع ومبررات لإنتاج النخب نفسها، فتارة تبرر ذلك بإكراهات الوقت، أو بتحديات المرحلة ومتطلبات الخبرة والكفاءة، وتارة أخرى بالشرعية التاريخية. وقد أدت كل هذه العوامل إلى تأزّم العلاقة بين قيادات عدد من الأحزاب وحركاتها الشبيبيّة، وأسهم في مغادرة عدد من الطاقات الشابة للأحزاب.
وإذا استحضرنا أن الحزب يفترض أن يكون بمثابة «مدرسة» لترسيخ الممارسة الديمقراطية، فإن العوامل المشار إليها، تدفع إلى التساؤل عن مدى جدّية ومصداقية جهود هذه الأحزاب باتجاه دفع الدولة إلى اعتماد إصلاحات ديمقراطية، في الوقت الذي تتنكر له هي نفسها ضمن ممارساتها.
إن تجدّد النخب الحزبية يمكن أن يسهم في دعم أداء البرلمان، كما سيؤدي حتما إلى إخراج الأحزاب من جمودها وانغلاقها، وحدوث مصالحة بين المواطن والشأن السياسي بشكل عام، بما يرسّخ لديه القناعة بأهمية الانخراط في الأحزاب، طالما أنه سيجد نفسه داخلها.
إن الاختلالات التي تعيشها الأحزاب المغربية حالياً، على مستوى تجدّد النخب لا هي في مصلحة المجتمع ولا في مصلحة الدولة ولا في مصلحة الأحزاب السياسية نفسها، ولذلك فالأمر يتطلب جرأة سياسية وإرادة حقيقية، كما يفرض اتخاذ مجموعة من المبادرات والتدابير المرتبطة باعتماد الديمقراطية الداخلية للأحزاب، واعتماد أساليب قانونية داعمة لفئات كالنساء والشباب داخل هذه الأحزاب، وانفتاح الأحزاب على مختلف مكونات المجتمع وكفاءاته، وتحوّلها إلى مدارس حقيقية للتنشئة السياسية والاجتماعية، بهدف إعداد نخب قادرة على تدبير الشأن العام بكفاءة واقتدار.
كما يتطلب الأمر اعتماد الدولة أنظمة ومعايير انتخابية مؤسسة على الكفاءة والمحاسبة والمصداقية، ومحاطة بضمانات سياسية وإدارية وقانونية وميدانية، تكفل احترام إرادة المواطنين واختياراتهم.. ودعم استقلالية القضاء بما يحمي العملية الانتخابية ويوفر شروط نزاهتها.
وإذا كانت الأحزاب السياسية مطالبة بإعداد نخب وفية وملتزمة بمبادئ الحزب ومستعدة للدفاع عنها، فإن المواطن بدوره يظلّ ملزماً بمعاقبة الأحزاب التي لا ترسّخ تجدّد النخب عبر عدم التصويت على مرشحيها خلال الانتخابات المحلية والتشريعية، كما أن وسائل الإعلام وهيئات المجتمع المدني تتحمل مسؤولية على مستوى ترسيخ ثقافة تجدّد النخب.

* باحث أكاديمي من المغرب/”الخليج”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *