ليبيا بين الصراع الداخلي والأجندات الخارجية

كل المحللين السياسيين العرب والأجانب يطرحون سؤال؛ ماذا يجري في ليبيا اليوم؟ مند سقوط النظام السابق عام 2011، والخبراء والمختصون يحاولون تقديم وتحليل أسباب تعثر إعادة بناء الدولة في ليبيا، وقد كان التركيز على أن إلغاء معمر القذافي للدولة كان السبب الجوهري وراء حالة الفراغ السياسي، والذى بدوره أفقر ليبيا من النخب السياسية وحرمها من مؤسساتها الوطنية القادرة على العبور بالبلاد من المرحلة الانتقالية، إلى مرحلة تأسيس الدولة.
ورغم أن هذا التحليل لا يخلو من الواقعية، إلا أنه لا يقدم الصورة كاملة عن الواقع على الأرض، فكما قال المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري أن “القذافي لم يلغ الدولة كما تحلل ليزا أندرسون وفاند ويل ومفكرين غربيين، ولكن في الحقيقة القذافي لم يجد دولة أصلا حتى يقوم بإلغائها” وأنا أدعم الجابري حيث أن النظام الملكي كان يعاني نفس المشاكل، ونفس هشاشة المؤسسات وازدواجية نظام الحكم، أو بمعنى آخر وكما يقول المرحوم منصور الكيخيا أن مشكلة ليبيا ليست في حكامها، بل في تاريخها حيث تعاني ذات المشاكل وتخوض نفس الصراعات وتتحمل نفس الإخفاقات.
لماذا لم تظهر هذه التناقضات بنفس هذا الحجم من العنف والانقسام خلال حقبة الملك إدريس وحقبة القذافي مثلما ما نشاهده اليوم؟ وإذا ما كان السبب وراء التوافق الاجتماعي والاستقرار الأمني في فترة القذافي هو القبضة الحديدية، فلماذا لم تظهر هذه التناقضات خلال النظام الملكي؟
إن تحليل أبعاد هذا التغير يتطلب دراسة تحليلية لكل مرحلة من المراحل التي مرت بها ليبيا منذ استقلالها عام 1951/ 1952. وهنا أقول إن فترة ما بعد الاستقلال وحتى ظهور النفط عام 1962 كانت البلاد تحت الرعاية الدولية أو، بالأصح، تحت الرعاية الغربية المباشرة وإن الهامش السياسي الذي كان ممنوحا لليبيين في إدارة شؤونهم محدود جدا، بالإضافة إلى افتقار البلاد إلى خبرات إدارية أو فنية، حيث لم يكن في ليبيا طبيب أو مهندس واحد، ناهيك عن أن المؤسسات المالية الغربية والدولية هي المسؤولة عن التنمية الاقتصادية وإدارة الإعمار نظرا لأن ليبيا كانت من أفقر الدول فى العالم، حيث لا يتجاوز دخل الفرد فيها 50 دولارا سنويا.
المرحلة الثانية هي مرحلة تدفق النفط مع بداية الستينات والذي أدى إلى استغناء ليبيا عن المساعدات الأجنبية وإلغاء النظام الفيدرالي، ثم إلغاء دور المؤسسات الإنمائية الغربية والدولية، وانطلاق برامج التنمية المحلية، واتساع دور الليبيين في إدارة شؤون بلادهم في ظل دولة ريعية تفتقد لكل مقومات التنمية، من حيث الخبرات الإدارية والأجهزة الرقابية، مما أدى إلى انتشار الفساد وعرقلة استكمال بناء المؤسسات الضعيفة أصلا، رغم أن النفط ساهم في تطوير التعليم وساعد على بداية وجود نخبة سياسية، ولكنها كانت نخبة ريعية تتبنى رأي إعادة توزيع دخل النفط، وليس تراكم الثروة عن طريق تنويع الدخل ومنع هيمنة ريع النفط على الدخل القومي. كما أن ارتفاع نسبة التعليم أدى إلى أن هذه النخب السياسية أصبحت توسع مطالبها الوطنية متأثرة بالدعوات القومية في مصر والشام وبالصراع العربي الإسرائيلي، والمطالبة بالتخلص من هيمنة بريطانيا وأميركا على القرار السياسي الوطني، والحد من تدخل القواعد البريطانية والأميركية والشركات النفطية الغربية في الشأن الداخلي الليبي.
كل هذه التناقضات المتراكمة من الفدرالية، إلى الفقر، إلى التدخل الخارجي، إلى الفساد المالي، إلى الصراع في الشرق الأوسط، إلى دورالشركات النفطية الكبرى، كان يتم تأجيلها أو تسكينها بواسطة “كورتيزول” أموال النفط، والذى كان دوره يقتصر على تأجيل المشاكل لا حلها، بل أدى إلى تفاقمها يوما بعد آخر حتى تمظهرت في سيطرة الجيش على السلطة عام 1969 في محاولة لحل مشاكل ليبيا المزمنة، كما عبر عن ذلك البيان الأول للجيش، وتفاءل الليبيون، وبدأت مرحلة جديدة من البناء الاقتصادي، ومحاولة استقلال القرار السياسي، وتقليص دور اللاعبين الدوليين في المسرح السياسي الليبي الداخلي والخارجي.
في منتصف السبعينات انشقت قيادة الجيش نتيجة الصراع على السلطة، وفشلت ليبيا مرة أخرى في بناء مؤسساتها السياسية والمدنية وقد أدى هذا الوضع إلى رفع شعار الثورة الدائمة أو ازدواجية النظام كما هو الحال أيام النظام الملكي، كما أن هذا التحول أدى إلى تعميق الدولة الريعية بتأميم الحكومة للأنشطة الاقتصادية، وهيمنتها على النفط وتحول كل الليبيين إلى موظفين عامين.
أما على الصعيد الخارجي، فإن حالة العداء لليبيا أصبحت تتسع بشكل متسارع مع جيرانها، ومع القوى الدولية الغربية، ودفعت ليبيا إلى لعب أدوار لا تتناسب مع حجمها وإمكانياتها المحدودة، حتى تمكن خصومها من تصنيفها “دولة راعية للإرهاب” ووضعها تحت طائلة العقوبات الدولية قرابة عقد من الزمن.
مجمل القول أن ليبيا تحولت ابتداء عام 1962 من دولة فقيرة إلى دولة غنية، ثم تحولت عام 1969 من دولة ليبرالية منفتحة، إلى دولة اشتراكية مغلقة، ومن دولة تسيرها القواعد والشركات النفطية، إلى دولة ذات أطماع توسعية. وبعد أقل من عقد من هذه السياسة انحدر دخل ليبيا الوطني نتيجة انخفاض أسعار النفط، والفشل في تنويع اقتصادها وتحولها من لاعب نشط إلى دولة منبوذة تحت الحصار الاقتصادي والحظر الجوي.
وفي مستهل هذا القرن غيرت ليبيا سياستها الداخلية والخارجية، حيث طبّعت علاقاتها مع الغرب، وتخلت عن طموحاتها النووية وتحسن ميزان دفوعاتها نتيجة ارتفاع أسعار النفط، وسمحت أو أجبرت على إعطاء دور للاعبين الإقليميين والدوليين في قرارها السياسي، الداخلي والخارجي، تحت شعار “الرابح- الرابح” لا “الرابح- الخاسر”، وأدت هذه التحولات إلى فتح حوار مع خصوم النظام في الخارج والداخل، مستخدمة أموال النفط مرة أخرى (الكرتزول) كمسكن لتفكيك أو إزالة كل التراكمات السابقة والبدء من أول السطر إلى أن انفجر الوضع في فبراير 2011.
*كاتب ليبي
“العرب”

اقرأ أيضا

الملك محمد السادس يترأس جلسة عمل خُصصت لموضوع مراجعة مدونة الأسرة

ترأس الملك محمد السادس، اليوم الاثنين بالقصر الملكي بالدار البيضاء، جلسة عمل خصصت لموضوع مراجعة مدونة الأسرة.

التلاعب والكذب والخداع.. قصص وحوادث الوجه المظلم للذكاء الاصطناعي

كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة تنال الثناء والإعجاب باعتبارها حلولاً مبتكرة للمشاكل، لكن جانباً مظلماً …

حدث في 2024.. حكومة عزيز أخنوش في صيغة جديدة

من بين الأحداث السياسية البارزة بالمغرب والتي ميزت سنة 2024، إجراء تعديل حكومي همّ وزارات حيوية بالمملكة، ما من شأنه أن يضخ دماء جديدة في عمل الحكومة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *