تصف جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر نفسها بأنها «مجتمع» فيما تعتبر «النهضة» في تونس نفسها «حركة». لكن، ونظراً إلى الظروف الخاصة التي أنشأتها الانتفاضات العربية في عام 2011، أصبح كلاهما حزبين سياسيين. وأثار ذلك بدوره مشاكل عدة بالنسبة إليهما وبالنسبة إلى أعضائهما والرأي العام على حدّ سواء.
ومن المعلوم أنّ حسن البنّا، مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، كان يرغب في أن تمثّل حركته ضمير الأمة، وخدمه هذا الموقف في السنوات التي كان فيها «الإخوان» جزءاً من الحركة الوطنية الواسعة ضد الاحتلال البريطاني. كما قام البنّا بنشر مواقفه هذه عبر الصحف، والخطابات، والرسائل الشهيرة التي أرسلها إلى الملك فاروق، بهدف لفت الانتباه إلى الممارسات التي كان يعتبر أنها تشكل خطراً على العقيدة الإسلامية.
ومع ذلك، بدأت مشاكل جديّة تبرز قبل سنوات عدة من اغتيال البنّا في عام 1949. فمن جهة، ازداد عدد أعضاء «الإخوان المسلمين» إلى حدّ أنّ الجماعة لفتت انتباه المزيد من السياسيين العلمانيين، إما لأنهم رأوا في الأعضاء المنتمين إليها ناخبين محتملين لأحزاب على غرار حزب «الوفد»، أو لأنهم شعروا بالقلق جرّاء ازدياد نفوذ «الإخوان». ومن جهة أخرى، برزت مشاكل مع بعض الناشطين الشبّان، الذين شعروا بوجوب تكثيف تحرّكاتهم، للردّ على ما قاله البنّا بأنّ الإسلام في خطر وبأنه يجب إعادة الشعب الإسلامي برمته إلى الطريق الصحيح برويّة وصبر. بالتالي، نشأ جهاز سرّي، وبدأت دورة عنيفة من الاغتيالات، انتهت بمقتل البنّا نفسه. وما أعقب هذا الحدث معروف، إذ عانى «الإخوان المسلمون» اضطهاداً في عهد جمال عبد الناصر، وعادوا إلى النشاط في عهد أنور السادات، كما أرسوا شراكة محدودة في الإدارة الاجتماعية في عهد حسني مبارك.
وقد حظيت جماعة «الإخوان المسلمين» بفرصة مفاجئة بإعادة إحياء حظوظها جرّاء الظروف الخاصة التي نتجت من انتفاضة عام 2011، بفضل الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة إرساء دستور جديد، ومن ثمّ إلى مرحلة الانتخابات الوطنية، التي فازوا بها نظراً إلى تاريخهم كمعارضة وتنظيم شعبي حاشد. إلا أنّ كلّ ما اختبره «الإخوان المسلمون» هو المعاناة جرّاء هذا الفوز، بعد أن بدأت سيطرتهم على الحكومة تثير الشكوك في أوساط الرأي العام، الذي شعر بالقلق جرّاء افتقار الجماعة المذكورة إلى الانفتاح، واستيلائها على الوظائف الحكومية، وعجزها الواضح عن إيجاد حلّ لأزمة البلاد الاقتصادية والاجتماعية. ولا عجب في أنّ عدداً كبيراً من المراقبين خلصوا إلى أنّ تحوّل الجماعة من حركة دينية إلى حزب حاكم كان خطأ فادحاً.
ثمّة عبر كثيرة يمكن استخلاصها أيضاً من عملية الانتقال السياسي الأكثر تعقيداً في تونس. فهناك أيضاً، فازت حركة «النهضة» في انتخابات عام 2011 وباتت حزباً سياسياً، مع أنها لم تفز بها، لحسن الحظ، بأكثرية ساحقة تخوّلها تشكيل حكومة بمفردها، ولكنها سمحت لها أن تكون جزءاً من ائتلاف أوسع يضمّ حزبين علمانيين صغيرين. ونتيجةً لذلك، أُجبِر زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي وأعوانه المقرّبون على الإقرار بقوة المعارضة الشعبية إزاء إخفاقهم الكامل في إيجاد أيّ مخرج لمشاكل البلاد الاقتصادية الكبيرة، مع العلم أنّ هذا هو العامل الأساسي الذي يقف خلف استقالتهم القسرية في أيلول (سبتمبر) 2013 لمصلحة حكومة موقتة تضمّ خبراء.
وعند هذا الحدّ، تختلف قصة هاتين الحركتين الدينيتين اللتين وصلتا إلى السلطة كحزبين. ففي مصر، وفيما تواجه جماعة «الإخوان المسلمين» محاولة عسكرية جدية تهدف إلى إلغائها كقوة سياسية ودينية على حدّ سواء، لا تزال حركة «النهضة» في تونس تحظى بفرصة لإيجاد مكان لها في إطار النظام الائتلافي والتوافقي الذي سعت جاهدة إلى إرسائه. وبالفعل، يمكن القول بأنّ الحظ كان يقف إلى جانب حركة «النهضة»، لأنّ تونس ليست فقط مجتمعاً أكثر تجانساً من مصر، كونها تملك أيضاً مجموعة قوية من المؤسسات، على غرار «الاتحاد التونسي العام للشغل»، القادر أن يكون حَكماً وطنياً. إلا أنّ البروز القصير الأمد لما اعتُبر حركة متطرفة خطيرة مؤلفة من سلفيين محليين، قدّم لحركة «النهضة» فرصة رائعة كي تبرهن عن عقلانيتها واعتدالها من خلال الانقلاب ضدهم. لكنّ مهارات زعماء «النهضة» وحسن استغلال فترة النفي التي تعرّضوا لها، وقدرتهم على التعلّم من تجاربهم السابقة، كانت كلّها عوامل مؤثّرة إلى حدّ كبير، والدليل على ذلك قيامهم بتطويع عدد من المحاميات الشابات اللواتي يملكن مهارات في صياغة الدستور والتي كانوا يفتقرون إليها.
ومن بين ميزات حركة «النهضة» قدرتها على إيجاد طريقة لاستخدام مواطن قوّتها كحزب وحركة بطريقة تُعتبَر جديدة برأيي، من خلال اعتناق قيادتها نموذج الديموقراطية الذي يفسح المجال للأمرين معاً. والدليل على ذلك المقابلة الأخيرة التي أجريت مع راشد الغنوشي، والتي تحدّث فيها عن مفهوم ما أطلق عليه تسمية «المشروع الاجتماعي الشامل» القائم على ثقافة القيام بأعمال خيرية، إلى جانب اعتماد بُعد سياسي مهمّ يسمح له بأن يدخل في حوار فاعل ومستمر مع القوى الأساسية الفاعلة الأخرى داخل المجتمع التونسي. وبنتيجة ذلك، لم تشارك الحركة فقط في عملية مصمّمة لتوجيه تونس نحو مرحلة انتقالية ضرورية إنّما صعبة من النظام الديكتاتوري إلى نظام أكثر انفتاحاً ومسؤولية، بل مهّدت الطريق أيضاً أمام نشر ممارسة قائمة على التعاون المتسامح بين أفراد الشعب الذي يفترض أن ينظر إلى نفسه أكثر فأكثر على أنّه مجموعة من المواطنين الذين يحظون بحقوق وواجبات.
إلاّ أنّ نجاح هذا الأمر هو طبعاً أمر مختلف تماماً. ولكن، بالنظر إلى الوضع السائد في سائر أنحاء العالم العربي والحاجات الحالية للشعب التونسي، من المؤكّد أنّ المحاولة تستحق العناء. والجدير ذكره أنّ إمكان نجاح العمليّة يرضي رغبة الغنوشي وحركة «النهضة» في تبيان الإمكانية الحقيقية للتوصّل إلى ديموقراطية إسلامية حقيقية. وبالتالي، دعونا نشاهد ما ستؤول إليه الأمور بنظرة تعاطف قدر الإمكان.
“الحياة” اللندنية
اقرأ أيضا
سوريا.. زخم دبلوماسي إقليمي ودولي وخطوات لبناء المؤسسات
التقى القائد العام للإدارة السورية أحمد الشرع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في دمشق -أمس الأحد- وأكدا أهمية تعزيز العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وتعزيز الحكومة المقبلة، كما دعا الجانبان إلى رفع العقوبات عن سوريا.
تامسنا تستضيف الدورة الأولى لملتقى الفيلم بتنوع فني يناقش قضايا السينما
تنظم جمعية السناء للمسرح والثقافة، بتعاون مع الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب، الدورة الأولى لملتقى …
بحضور المملكة.. اختتام أشغال الدورة الـ10 لوزراء العدل الأفارقة
أفادت وزارة العدل بأن أشغال الدورة الـ10 العادية للجنة الفنية المتخصصة المعنية بالعدل والشؤون القانونية …