تبدو الأزمة الليبية من الغموض ما يكفيها للاستمرار والتطور إلى أي وضع، هكذا تلوح في الأفق، مجموعة صراعات ميليشياوية بين جماعات وأحزاب متصارعة على النفوذ والبترول، ولكن تحمل في طبيعتها بذوراً للصراع العقائدي والسياسي الذي غلّف مناطق الشرق الأوسط بعد الربيع العربي، صراع أيدلوجي بين جماعات الإرهاب والإسلام السياسي وبين مفهوم الدولة المدنية المركزية.
هكذا يبدو الوضع في ليبيا..صراع بين نظام سياسي متحالف مع الإخوان والميليشيات المتطرفة وحزب العدالة والبناء التابع للإخوان من ناحية، وبين تيار شعبي وعسكري مدني بدأ في الظهور مؤخراً يريد إقصاء هذه الجماعات المتطرفة من المشهد من ناحية أخرى، وحُجته في ذلك أن هذه الميليشيات سرقت ثورة الشعب الليبي وتسببت في تشويهه، وعزز من موقفه حماقة تلك الجماعات باختطاف البعثات الدبلوماسية العربية نظير الإفراج عن كوادرهم.
منذ قليل أعلن المتحدث باسم الجيش الليبي حظر التجول في بعض الأحياء بمدينة بني غازي من أجل إعادة الاستقرار بعد المواجهات التي خلّفت أكثر من 40 قتيلاً بين مجموعة اللواء المتقاعد ..”خليفة حفتر”..وبين كتيبتي 17 فبراير وأنصار الشريعة، وهما الكتيبتان الأشهر في بني غازي موالاةً للإخوان وتنظيم القاعدة، ويصر اللواء حفتر على مواجهتهم بعد تعدد حوادث الاغتيالات في الفترة الأخيرة، وما عزز موقف حفتر هو انضمام وحدات عسكرية من سلاح الجو الليبي إلى جماعته ليُعلن بذلك حفتر عن شبه سيطرته العسكرية على بني غازي.
وهي سيطرة لها مدلول سياسي وجغرافي، من ناحية ولاء أول مدينة ثورية ليبية إليه بما يساعد من تقليص دور الجيش الليبي النظامي الذي لا زال متعاوناً مع الميليشيات الإسلامية المتطرفة، ومن الناحية الجيوسياسية هو قطع الإمداد الواصل بين أي جماعة إرهابية مفترضة تعبر الحدود إلى مصر وبين الشرق الليبي، هكذا أتفهم ذلك الاهتمام المصري بما يحدث في ليبيا، فاستقرار الأوضاع في بني غازي وعودة دور الدولة يعني بالضرورة عودة تأمين الحدود التي تمتد إلى مسافة 1200 كيلو متر بين مصر وليبيا، وهي مساحة شاسعة يصعب التحكم فيها، الجيش المصري وحده لا يستطيع ذلك، لابد من تعاون ليبيا، وأظن أن ما يقوم به حفتر يساهم في تأمين الحدود بدرجة كبيرة.
هذا لا يعني دعماً مصريا للواء خليفة حفتر، ولكن المصالح تقضي على مصر التعاون مع أي جهة تضبط الحدود الليبية ، والمعروفة مخابراتياً أنها مرتعاً هاماً لتجار السلاح، فهذه الحدود تمر منها نسبة كبيرة من الأسلحة الموجهة لصالح المتطرفين سواء في مصر أو سوريا، وضبط هذه الحدود يعني غلق منفذاً هاماً لدعم الإرهاب في سيناء على وجه الخصوص، فالمخابرات المصرية قد اكتشفت أن السلاح القادم لإرهابيي سيناء تأتي نسبة كبيرة منه من جهة الغرب ، والخلية الجاسوسية الإسرائيلية المضبوطة منذ ثلاثة أشهر كشفت أن نسبة كبيرة من هذا السلاح تأتي من جهة الغرب.
ربما هناك شكوك عن دعم مصر للواء خليفة حفتر تمثلت في استضافة الإعلام المصري له تليفونياً أكثر من مرة، وكذلك رفع جماهير بني غازي لصور المشير عبدالفتاح السيسي، ربما يريدون تجربة مصر في ليبيا فأصبح لديهم السيسي رمزاً للانتصار على خصومهم في مصر وهم الإخوان، وعندما سألت مذيعة قناة سكاي نيوز المشير السيسي عن رفع جماهير بني غازي اسمه وصوره قال بدبلوماسية مفرطة أنه يتمنى استقرار الأوضاع في ليبيا، ولم يتعرض لهذا التعاطف الشعبي في شرق ليبيا معه، ربما عسكرية الرجل فرضت عليه عدم التعرض لهذا الأمر كونه دقيق وحسّاس، كذلك لخلفيته المخابراتية التي توجب عليه الشراء لا البيع.
الحكومة الليبية لا تعترف باللواء خليفة حفتر ومجموعته القتالية، وتتهمه بالخروج عن القانون وبسعيه للانقلاب على الشرعية، وهو كذلك يتهمها بدعم المتطرفين والتقاعس عن حل كافة الميليشيات الإرهابية التي تجوب ليبيا بكل أريحية، حتى باتت ليبيا من أكبر دول العالم جمعاً للسلاح خارج سيطرة الدولة، ومعلومة لا يذكرها الإعلام أن حفتر كان من الضباط الكبار الذين ثاروا على القذافي، ولكنها ثورة بعد نفي سياسي في أمريكا دام 20 عاماً بعد استقالته من الجيش الليبي في الثمانينات، وهذا يعني أن عودته للقتال ضد القذافي أوجدت روحاً شعبية ثورية ساهمت في إخضاع بني غازي للمتظاهرين بسرعة.
الموقف الأمريكي مما يحدث في ليبيا مبهم وغامض ، ربما هي لا تريد فتح جبهة جديدة في ليبيا بعد تورطها في سوريا وأوكرانيا، علاوة على علاقتها المتوترة مع مصر، إضافة إلى جهلها بالتعقيدات القبلية والعشائرية في ليبيا، والذي أعتقد أن إيطاليا وفرنسا على علم بهذه التعقيدات أفضل من أمريكا، وهذا يدعو للتساؤل..أليست أمريكا هي من قادت حلف الناتو لإسقاط القذافي ؟..ثم لماذا سارعت بالانسحاب من العملية قبل انتهائها ؟..ثم لماذا لم تتدخل الآن وهي تعلم أن ليبيا بالنسبة لها ورقة ضغط على مصر ؟..وهل هي لم تتدخل فعلاً أم أن هناك عمل مخابراتي أمريكي غير مكشوف بعد ؟..أسئلة كثيرة تحيط بهذا الغموض، ولكن ربما تكشفها قادم الأيام..
أخيراً فما يحدث في ليبيا لا يخرج من كونه..”انفلاتاً أمنياً”..من جراء سيطرة الجماعات والميلشيات العسكرية على الميدان، وهي على تنوعها واختلافاتها غير قادرة على ضبط الأوضاع، وبالتالي فالجيش الليبي هو الآخر غير قادر إلا بتعاون تلك الجماعات، وأعتقد أن ما يقوم به خليفة حفتر هو استهداف لتلك المنظومة الأمنية الرخوة والمتواطئة على الشعب الليبي، حتى بات أمن الأفراد مهدداً بمجرد حديثهم عن العنف وتورط الإخوان في هذا الانفلات، منذ أيام قُتل الشيخ منصور عبدالكريم البرعصي وهو من شيوخ السلفية الجهادية التائبين من العنف في بني غازي فقط لمجرد اعتراضه على هذا الانفلات الأمني والإرهاب الذي تتعرض له ليبيا.
أظن بعد ذلك يجب أن تكون هناك وقفةً جادة من الليبيين لمواجهة هذه الجماعات بما فيها حزب العدالة والبناء التابع للإخوان، أن صعودهم للسلطة كان مكلفاً للشعب الليبي، ويجب على مصر التدخل وطرح المبادرات والحلول، وكذلك الجامعة العربية التي لا تنشط هذ الأيام إلا في معاقبة الدول والشعوب، غريب أن تجتمع الجامعة العربية لإعلان الحرب على سوريا وليبيا ولا تجتمع حين يتهدد الشعب الليبي في أرواحه وممتلكاته للمرة الألف.
“دنيا الوطن”
اقرأ أيضا
وزارة الصحة تطلق عملية رعاية للمناطق المعرضة لآثار موجات البرد
أعلنت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، انطلاق عملية “رعاية 2024-2025” لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة …
إيران.. إعدام شاب للمرة الثانية بعد توقف عملية شنقه في المحاولة الأولى
أُعدم الأربعاء في إيران، رجل يبلغ من العمر 26 عاماً، شنقاً، في محاولة ثانية لتنفيذ …
البام يطلق “أيام الأبواب المفتوحة” لترتيب البيت الداخلي وفتح باب الحوار
أطلق حزب الأصالة والمعاصرة النسخة الأولى من “الأبواب المفتوحة”، منذ بداية الشهر الحالي. ويعقد حزب …