يدشن العالم العربي ملامح الحرب الدافئة التي يشعلها الفاعلون والطامعون ويتدفئون بنارها التي تكوي شعوب ودول المنطقة بنزيفها المزمن، وتبدوا ملامح هذه الحرب اكثر وحشية وهمجية وتستهدف الدولة كنظرية ونظام، وأضحت تقتطع شعوبها من فلسفة التلاحم النسقي بين الشعب والدولة، ونظرا للصراع المحتدم بين نظرية الدولة ونظرية الفوضى تبرز ملامح الحرب المركبة التي تعتمد في ادامتها على الموجات المتطرفة الاربع التي تكونت من رحم الحروب الفاشلة والعبثية، وكذلك فشل الوقاية الاستراتيجية والمعالجة الذكية، ونشهد تحول العالم العربي الى مسرحا للحرب الدافئة وهي سمة الحروب المعاصرة، والتي تعتمد على توغل وتغول الاطراف الاقليمية على حساب الامن القومي العربي، وباستخدام ادوات متطرفة ذات بيارق مزيفة تحقق النفاذ الدموي للمجتمعات والدول معا، وقد كتبنا مرارا ومنذ سنوات عن خطورة الاوضاع وتنامي سلطة المليشيات والتنظيمات المتطرفة وفق ظاهرة ( المليشيا سلطة) التي ترتبط عموديا بدول اقليمية تحقق من خلالها سياسة الوصول الغير مباشر والتأثير المباشر الذي يحول بدوره ازمات تلك الدول الداخلية صوب ازمات خارجية (صناعة العدو الخارجي) ونقل مسرح الصراع، ومن ابجديات التحليل الاستراتيجي لخطة الامن القومي هو تقييم التهديد وتحديد المخاطر، وعندما نجسد هذه الظاهرة الهدامة التي اضحت تنشطر وتتناسل على حساب الدول والمجتمعات وأمنها ومستقبل اجيالها فأننا نصنفها ضمن المخاطر العظمى.
توازن مفقود
تشترك كافة الدول بمصالح متناسقة تتقاطع في مكان وتختلف في موقع اخر، ولكنها لا تخترق خطوط الامن القومي الحمر، وبلا شك بعد ان كانت معادلة التوازن العربي الاقليمي نشطة قبل 2003 بوجود العراق كقوة تتسق بمعايير توازن الاضداد وتوازن التوافق مع كل من ايران وتركيا وإسرائيل في الصوب الشرقي العربي، وكون العراق مفتاح المنطقة البري وفقا للمعايير الجيوعسكرية ومفتاحها المحوري وفقا للمعايير الجيوستراتيجية فكانت المنطقة تنعم بأمن مستقر وسلم متوازن باستثناء خطيئة اجتياح الكويت التي افرطت عقد القوة العربية، وعلى اثرها اتجهت الدول العربية لتحقيق امن قطري بدلا من الامن القومي العربي، وبعد غزو العراق 2003 وحل الدولة والقوات المسلحة وتجريفها بشكل بشع اصبحت الرقعة الامنة بلا قوة، حيث جرى ملئ الفراغ فيها بقوى لا متوازية متمثلة بالمليشيات والتنظيمات المتطرفة التي ارتدت لباس الدولة مع فارق المؤهل والهدف الاستراتيجي والمعرفة السياسية والمقدرة الامنية، لنصحوا على عالم مضطرب تتراجع فيه الدولة والقوات المسلحة لصالح تنظيمات مسلحة تدار عن بعد لتحقق التأثير المباشر والنفوذ الذي يرتقي للاحتلال الغير مباشر، وبعد الاضطراب والتخبط في اعادة بناء الدولة العراقية وإرساء مفاهيم مشوهة ونظام سياسي هش لا يرتبط بقيم العلوم السياسية كنظام يحقق الديمقراطية وحقوق المواطنة وسياقات الدفاع المنهجية المنتظمة بعقيدة وطنية، دخلت المنطقة في تقاطع انفاق استراتيجية حالكة الظلام، تنتشر على جوانبها الهمجية والوحشية الدموية الزاحفة، وقد ذهب ضحيتها المجتمعات والشعوب التي افرزت على اساس مذهبي وطائفي بعد عقد من المجازر والجرائم الارهابية، وبعد تأخر وإهمال الوقاية والمعالجة اضحت هذه الظاهرة تزحف بشكل مضطرد الى الجوار العربي لتستنزف الدول والمجتمعات دون معالجة ناجعة.
منظومة الدفاع العربي
اسست الجامعة العربية لنظام دفاع مشترك من خلال مجلس الدفاع المشترك للجامعة العربية وهي مؤسسة معنية انشئت بموجب شروط معاهدة الدفاع العربي المشترك و التعاون الاقتصادي (1950) لتنسيق دفاع مشترك لجامعة الدول العربية، وقد جرى طلب تحديثها وطرحت بشكل منفرد من دول متعددة ولم ترتقي هذه المعاهدة الى التطبيق الفعلي، وقد تم تفعيلها بشكل جزئي في الازمات ولم تكن فاعلة في العمل المشترك، وبالرغم ان ما نكتبه يندرج ضمن الحول السريعة لمعالجة التردي والتصدع في الامن والدفاع العربي الذي اصبح من الضرورات في ظل تعاظم المخاطر واتساعها دون معالجة، مما جعل المنطقة مسرحا لحروب مركبة متعددة تستنزف حقوق الاجيال والدول والمجتمعات، وتحول انظار الشعوب لفاعل اخر يؤمن حمايتهم بدل الدولة وهنا تكمن الخطورة مما يتطلب ان تقوم الدول باستعادة المبادأة وإعادة اعتبار قيمة القوة النظامية وتجزئتها بما يمكنها من التفاعل مع معطيات الحرب الحالية، ولعل من الضروري انشاء (منظمة حلف الدفاع العربي Arab Defence Treaty Organization)
كعملية وقائية سريعة ومعالجة للانهيار الدفاعي الحاصل وكذلك الامني المتصدع، بات ضرورة ملحة تتطلب توحيد الجهود وحشد الموارد بما يشابه “حلف شمال الاطلسي الناتو” الذي يضطلع بمهام الدفاع المشترك عن اوربا وفقا للضرورات الدفاعية، ويمكن للحلف ان يضم دول اقليمية فاعلة لتنسيق الدفاع المشترك وإيقاف تغول الدول وتمددها المباشر والغير مباشر استنادا للقوانين الدولية التي تؤكد شرعية الدول بالدفاع عن نفسها، خصوصا ان المنطقة تعصف بها المخاطر المختلفة، وقد تسلقت موجات التطرف سلم الدولة لترسم مستقبل قاتم للأجيال القادمة
تبقى القرارات مرهون بالتطبيقات خصوصا في ظل التهديدات المركبة والمخاطر الزاحفة التي تتطلب قرارات شجاعة وحزم منضبط بالحكمة والتنسيق والتخطيط السليم لتامين سلامة الاجيال والشعوب العربية التي اصبح نصفها مهجرا ونازحا ويستخدم وقودا حربيا لموجات التطرف والإرهاب التي تدار عن بعد، وكذلك القوات المتوغلة تحت ستار تلك التنظيمات، وبلا شك تعد الاستراتيجيات الدفاعية الفاعل المحوري والأساسي الذي يحقق النجاح الامني، لان (الامن الانسيابي وليد الدفاع المنظم) والأمن القومي نتاج للإدارة الاستراتيجية الناجعة لكلا صفحتي الامن والدفاع، ويا ترى هل سيكون هناك قرار شجاع وحكيم ينقذ الدول العربية من المد الفوضوي بكافة اشكاله العسكرية والأمنية والشبحية نأمل ذلك، ولعله امنيات عربية تنعش الامل للمجتمعات والشعوب العربية، وتحقق الردع المتوازن وتؤمن الدفاع المستقر لكي يتم الانتقال الى الصفحة السياسية التالية بتشكيل الاتحاد العربي اسوة بالاتحاد الاوربي الذي ثبت نجاحه وحقق الهوية الشاملة للدول المنضوية تحته، وكمال يقول الصينيون ان المشكلة مفتاح التقدم.
*رئيس مركز صقر للدراسات الاستراتيجية