وسط الموجه الإرهابية وظهور الجماعات المسلحة المتطرفة، التي تجتاح الشرق الاوسط تتصارع وتتنازع المواقف في الولايات المتحدة الامريكية بين رؤيتين أو منهجين الاول: يتزعمه الصقور (الجمهوريون) أصحاب التدخل العسكري والسياسي المباشر (فرض الهيمنة المباشرة)، والثاني: يتزعمه الحمائم (الديموقراطيون) الذين يسعون بقوة الى البحث عن اللاعبين بالنيابة عنهم (وفق منطلق القيادة من الخلف وهذه سياسة قديمة جديدة).
ترى الولايات المتحدة الامريكية ان التعامل المباشر مع اللاعب الاقليمي واضح المعالم خير منهج للتعامل مع المستجدات فبدأت بسياسة البحث عن اللاعبين الاقليمين لتمكينهم من فرض وجودهم في المنطقة المستهدفة للتعامل معها، ويمثل ذلك بالنسبة لها سلوكا سياسيا سليما في ظل الانهيارات الامنية الكبيرة التي تجتاح البلدان الشرق أوسطية، وأول اللاعبين الذين وقع عليهم الاختيار هو ايران كقوة سياسية تسعى الى الحصول على مزيد من المكاسب الديبلوماسية من خلال فرض مشكلة الارهاب وكيفية القضاء عليه في الشرق الاوسط كنقطة اشتراك للتفاوض حولها بشكل مباشر، ودخلت الى جانب هذه المشكلة ملفات اخرى أبرزها، الملف النووي الايراني، وملف العقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران، وأثبتت مفاوضات جنيف واجتماعات العاصمة السويسرية الجارية مدى دقة سياسة أمريكا المتمثلة في فلسفة الديمقراطيين وطريقة تعاملهم مع الملفات العالقة، بدلالة ان اشراك ايران في ملف معالجة الارهاب يعني تحرير ايران من القيود الاقتصادية أولا كمكسب سياسي مباشر، وربما وضوح السياسة الايرانية وفاعليتها في المنطقة مهدت الطريق أمام سياسة التعامل المرنة بين الولايات المتحدة الامريكية وايران.
وهذا يعني ان البرود الامريكي المنبثق عن فلسفة الديمقراطيين وتعاملهم مع مشاكل الشرق الاوسط ماهي الا سياسة للانتظار الحذر والمراقبة المباشرة بغية مراقبة وانتظار ظهور طرف اكثر وضوحا بغية التعامل معه، وهذه السياسة نلاحظها بشكل مباشر في السياسة الخارجية الامريكية منذ تولي الديمقراطيين الحكم في الولايات المتحدة الامريكية، وما التغيرات التي شهدتها مصر والتريث الامريكي الذي رافق انتقال الحكم من الاخوان الى السيسي والجيش الا نتاج لهذه الفلسفة السياسية، وكذلك الموقف من السعودية التي أحرجت الولايات المتحدة الامريكية وشكلت رأيا عاما شعبيا شرق أوسطيا منبثقا عن الرأي القائل ان الولايات المتحدة الامريكية ودول مجلس التعاون الخليجي تقف وراء الموجة الإرهابية، وظهور الجماعات المتطرفة التي سعت بشكل كبير في ضرب المنطقة بصعقة جيوسياسية أسفرت عن متغيرات كبيرة سببها عدم وضوح اللاعب المعتمد بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية، الامر الذي جعلها تتريث قليلا لحين ظهور قوى سياسية واضحة بإمكانها ان تجد مشتركات دبلوماسية وأهداف سياسية مشتركة تنبثق عنها تحقق مصالح الاطراف جميعا، ومما يؤكد ذلك تريثها في التعامل مع المشكلة اليمنية وظهور الحوثيين في مدخل البحر الأحمر حيث توجد المصالح الامريكية والاقليمية مما يعني ان ظهور قوة واضحة المعالم وغير متطفلة على المصالح الامريكية في تحركها الاقليمي يصب في مصلحة الولايات المتحدة الامريكية وما الخطابات والتناحرات السياسية والاعلامية الا جزءا من التحشيد الأيديولوجي للقضايا المتبناة من قبل الاطراف.
لعبت عوامل عديدة وراء ظهور هذا السيناريو الجديد واهمها:
– الارهاب وظهور الانشطارات السياسية الكبيرة كنتاج من نتاجات الربيع العربي الذي انطفئت شعلته وبقيت جمرته مشتعلة.
– رغبتها في تشجيع قوى جديدة معتمدة وواضحة المعالم ومن الممكن استقراء انفعالاتها السياسية وردود أفعالها وتنبؤ سلوكها السياسي بغية اتخاذ مواقف سياسية واممية بشأنها.
– انظمة الحكم المحافظة التي باتت تدعم التيارات الاصولية، والذي سبب احراجا عالميا للولايات المتحدة الامريكية خصوصا في المجتمعات الاسلامية، فضلا عن الرأي العام الامريكي.
– اوباما ومنهجه السياسي في التوجيه من الخلف أو القيادة من الخلف عبر سلسلة مفاوضات واتفاقات دبلوماسية تساهم في اعادة النفوذ الامريكي بشكل أقل حرجا من الوجود الامريكي أبان حكم الجمهوريين في المنطقة.
– نجاح القوى المناهضة للوجود الامريكي في المنطقة في عملية مواجهة التيارات المتطرفة، وتراجع أذرع الولايات المتحدة الامريكية المتمثلة بالقوى الرامية الى تغيير الانظمة او القوى المناهضة للوجود الامريكي والتي دعمتها الولايات المتحدة ابتداءا (ونقصد بداية الربيع العربي تحت مسمى خارطة الشرق الاوسط الجديد).
– سعي بعض القوى والدول الاقليمية الى عقد اتفاقات مع الولايات المتحدة الامريكية بغية تخفيف حدة الضغط الامريكي والدولي عليها وتصفير مشاكلها الاممية من خلال قضية الارهاب ومن ضمن هذه الدول ايران التي تعاني من مشكلتين خطيرتين وهما (المشكلة النووية – ومشكلة العقوبات الاقتصادية) التي أثقلت كاهل الاقتصاد الايراني وسوف تتسبب ربما بمشاكل اجتماعية وسياسية على المدى البعيد.
– التقارب الروسي الامريكي بشأن الازمة الاوكرانية أولا، فضلا عن الاتفاق الامريكي الروسي بشأن ملف الارهاب والجماعات الارهابية التي باتت تهدد الجميع وتهدد مصالح الجميع.
– انتهاء لعبة عش الدبابير الهيلاري كلينتونية التي حققت من خلالها السياسة الامريكية الخارجية نجاحا كبيرا من خلال حصر الارهاب الدولي في المنطقة المستهدفة وبالتالي الحاجة الى تكاتف الجميع للقضاء على هذه الدبابير باتت قضية حتمية لضمان عدم عودة الارهابيين في هذه المنطقة الى دولهم، وهذا ربما يفسر ظهور مصطلح (الخوف من هجمات الذئاب المنفردة) الحديث في تشخيص وتحليل بعض التحركات الارهابية خارج حدود عش الدبابير، لإيصال رسالة سياسية عالمية الى الدول الاقليمية بانها مستعدة للتعامل مع لاعبين دوليين واقليميين جدد، استنادا الى هذه القضية المطروحة وربما البطء في معالجة الارهاب من قبل قوات التحالف ناتج عن منهج التريث والانتظار ليفصح هذا اللاعب أو ذاك عن نفسه في الميدان.
– إحداث مزيد من التشخيصات والفحوصات للمجتمع الشرق أوسطي بغية استدراج القوى المتصارعة، وبالتالي استكشاف الطرف الواضح والاقوى بغية التعامل معه، فضلا عن رغبة الحمائم ايصال رسالة عالمية غايتها تغيير الرؤية الشرق اوسطية والعالمية حول العلاقة الامريكية المشبوهة مع الجماعات المتطرفة التي انقلبت على كل الموازين.
– اللعبة السياسية داخل الولايات المتحدة الامريكية والمتمثلة بالصراع المحتدم بين الجمهوريين (الصقور) والديمقراطيين (الحمائم) ورغبة الحمائم التناغم مع الرأي العام الامريكي الساعي الى التدخل غير المباشر بسبب ويلات الحرب التي أثرت سلبا على الولايات المتحدة الامريكية.
– التعارض في الموقفين البريطاني والامريكي ازاء خطة سايكس بيكو الجديدة الذي انتجته العقلية السياسية البريطانية بذكاء فائق، وربما مراحل الحسم في ليبيا والعراق وسوريا ومصر خير دليل على رغبة امريكا في التراجع عن السير وراء المتاهات التي رسمتها لها بريطانيا وخططها الدقيقة والملتوية.
اهم نتائج هذه السياسة:
– ربما ستساهم مساهمة فاعلة في عملية القضاء على الارهاب وربما ستدخل العلاقات الامريكية مع بلدان الشرق اوسط مرحلة تأريخية جديدة وترتبط معها متغيرات حاسمة على الواقع الجيوسياسي.
– ربما سوف تتزعم بعض الدول الاقليمية ادارة ملف الشرق الاوسط واهم هذه الدول المرشحة ايران وتركيا بعد تغيير بسيط في المواقف الدولية وربما تركيا بدأت بتغيير سياستها بحيث تنسجم مع هذا التخطيط.
– ربما سوف تتغير رؤية شعوب الشرق الاوسط الى الولايات المتحدة الامريكية لأنها سوف تقوم بإعادة قراءة مواقفها مع القوى السياسية والعسكرية في المنطقة وتحديدا الجماعات التي تم دعمتها قبيل الربيع العربي وخلاله.
– ربما سوف تعتمد أو تستند أو تنسجم سياسة الولايات المتحدة الامريكية مع المواقف الايرانية والتركية، بسبب نفوذ ايران على القوى الشيعية في المنطقة مثل الحوثيين او الفصائل المقاتلة في سوريا والقوة الجهادية في العراق التي باتت تحسم ابرز الملفات الامنية فضلا عن حزب الله في لبنان، اضافة الى النفوذ الذي تمارسه تركيا على الجماعات والفصائل السنية.
– ربما ستدخل العلاقات الامريكية مع دول مجلس التعاون الخليجي السعودية وقطر والبحرين مرحلة تأديبية على النحو الآتي: قطر (بسبب موقفها من الملف المصري والليبي الذي جعل العلاقات الامريكية مع هذه الدول خجولة جدا، السعودية بسبب موقفها من دعم الجماعات الارهابية والمتطرفة في العراق وسوريا والتدخل العسكري في اليمن، والبحرين بسب ملف حقوق الانسان المتمثل بالثورة البحرينية وانتهاكات حقوق الانسان المسكوت عنها).
– ربما سيساهم ذلك بظهور خارطة جديدة من العلاقات الدولية والاقليمية تنسجم مع مرحلة ما بعد داعش قائمة على أساس تبادل المنافع والمصالح بغية اصلاح الوضع السياسي والامني في الشرق الاوسط، وعلى ما يبدو ان هذا التحليل ناتج عن فلسفة حسن النية المنبثقة عن تمنياتنا لهذه المنطقة الاستراتيجية العالمية الحيوية بالاستقرار السياسي واستتباب الامن لتنعم شعوبها بالازدهار والثروات المعطلة التي باتت في مرمى الجماعات الإرهابية، والمصالح السياسية المنبثقة من سوء النية لبعض الدول التي تحاول التهام دول اخرى بغطاء النفوذ والهيمنة.
* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية