ضرب الإرهاب الأعمى باريس، فأمطر في المغرب جهوداً مضاعفة في التصدي لموجة العنف. فيما عاودت عقارب الساعة الرسو على ضفاف الحوار العالق مع باريس، لا تنتظر سوى إشارة البدء التي تزامن التلويح بها على خجل.
ما لم يكن متوقعاً أن يبسط الهاجس الأمني نفوذه على رافد السياسة والاقتصاد. فقد انزلقت علاقات البلدين الصديقين إلى حافة الهاوية، على رغم أن باريس تعتبر الشريك الاقتصادي التجاري الأول للرباط، وتأثرت سلباً في ظل الأبعاد الاستراتيجية لطابع الشراكة المتبادلة. لكنها انبرت في اتجاه الانفتاح على إيقاع ضرورات التعاون الأمني الذي بات يفوق كل الاعتبارات.
سواء تأثرت التطورات الإيجابية في تصحيح مسار علاقات البلدين بعودة الصراعات السياسية الداخلية، بعد أن دخلت فاعليات المعارضة على خط الأزمة، أو حتم التنسيق الأمني في مواجهة الإرهاب الإذعان للأمر الواقع، فإن المسألة تعكس تصوراً عقلانياً وواقعياً لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الأصدقاء، وإن اختلفوا في أكثر من منعطف.
ما يدفع إلى هذا الاستخلاص، أن حادثاً إرهابياً مماثلاً في عنفه وقسوته كان ضرب فندقاً في مدينة مراكش قبل أكثر من عقدين، ومن نتائجه السلبية المستمرة أن الخلاف الحدودي بين المغرب والجزائر الذي كان ينظر إليه كمحطة عابرة، لا زال سارياً. والسبب أن اتهامات صدرت عن الرباط بتورط رعايا من أصول جزائرية في الحادث، وحتمت من وجهة نظرها فرض نظام التأشيرة، فردت الجزائر بإغلاق الحدود من طرف واحد، ولم تفلح المساعي في معاودة تصحيح الصورة.
ليس أوضح من محدودية سياسة الانغلاق، أن ناشطاً جزائرياً يشتبه في انتسابه إلى «جند الخلافة» تسلل إلى الأراضي المغربية في الآونة الأخيرة، وفيما تواصل السلطات المغربية تفكيك الخيوط الرابطة بين ذلك التسلل وتورط التنظيم في ذبح الرهينة الفرنسية إيرفي كردال في شرق الجزائر، تحركت بوادر تنسيق أكثر تردداً بين سلطات البلدين لحصر ما يمكن من تداعيات الخسائر.
على رغم أنه يصعب قياس الأزمة المغربية مع باريس مع التوتر المستمر بين الرباط والجزائر، فإن الأرجح هو الإبقاء على الحذر وعدم الثقة. مع أن الهجمات الإرهابية حين تضرب يميناً وشمالاً، لا تضع في الاعتبار حواجز الخلافات السياسية بين الدول. وإذا لم يكن من أسباب لتناسي الحزازات سوى الانخراط الموحد في الحرب على الإرهاب، فإن الصورة على قدر كبير من التناقض، ففي الحالة المغربية- الفرنسية فرضت تحولاً نوعياً في التعاطي مع الملفات التي لا تقبل الإرجاء، مثل حل إشكالات التعاون القضائي الذي ستترتب عليه تطورات في مجالات أخرى، لكنها في الحالة الجزائرية- المغربية تراوح مكانها، على رغم أن المسافة بين وجدة ووهران لا تقارن برحلات الطائرات من الرباط إلى باريس.
البُعد ليس جغرافياً، فقد قلصته الكشوفات العلمية إلى أقل ما يمكن من الزمن والمسافة. ولكنه سياسي يراكم كماً هائلاً من الحساسيات التي هيمنت على الأفكار والعقول والممارسات. وفي الوقت الذي يرغب المغاربيون في منطقة الشمال الأفريقي في احتذاء التجربة الأوروبية، يتوقفون عند منتصف الطريق، إذ تشدهم مفاهيم إلى الوراء بدل الإقدام على اقتباس إيجابيات الأسلوب الأوروبي.
التنسيق الحدودي في مواجهة الإرهاب يبلور درجة عالية من التفاهم. وله امتدادات إيجابية في اقتصاديات التكامل. لكن كيف يمكن تصور بناء اتحاد مغاربي يكون نداً وشريكاً لنظيره الأوروبي، فيما الحدود عالقة بين أكبر دولتين؟ وإلى أن تحدث رجات أعمق في طرائق التفكير وإدارة الأزمات، يبدو الاتجاه نحو حلحلة الأزمة بين الرباط وباريس درساً مفيداً، لم تكتمل فصوله بعد.
*كاتب صحفي/”الحياة” اللندنية