أجمعت زعامات حزبية مغربية في المعارضة والموالاة على وصف وزير الدولة الراحل عبدالله باها برجل وفاق وتقارب وحوار. وتلك شهادة يتجاوز مدلولها الإشادة بمناقب الفقيد الذي كان أقرب إلى بوصلة رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، نحو الإقرار بمزايا الوفاق السياسي، حين تصطدم الأفكار والتجارب بقناعات متناقضة في المنطلقات والأهداف.
ثقافة الرثاء في تقاليد سياسية واجتماعية لا تعير الاهتمام إلى نصف الكأس الفارغة. غير أن من يضع يده في الجمر أثناء تدبير الأزمات ومواجهة المواقف المستعصية، ليس مثل من يطلق العنان للنقد الذي يصدر من خارج الارتماء في أمواج البحر السياسية والاقتصادية. وإذا كان الحزب الإسلامي «العدالة والتنمية» انتزع في شخص الراحل عبدالله باها تقديراً خاصاً، لما كان يتحلى به من واقعية واتزان وروية، فإن رهانه يزيد صعوبة لناحية تحويل اللحظة من تشخيص فردي إلى سياسة قائمة الذات.
أقرب إلى متناول اليد أن الحوار مع المركزيات النقابية الذي اعترته صعوبات، ذات خلفيات سياسية وبنيوية في غضون الافتقار إلى الموارد التي تكفل الاستجابة لجانب من حزمة المطالب الاجتماعية، يفترض أن يبدأ بروح جديدة يغلب عليها الوفاق، فالحكومة في إمكانها القول إن إمكاناتها المتوافرة لا تسمح لها بتنفيذ جزء أكبر من المطالب، إلا في غضون سنوات عدة، كما أن في امكان النقابات أن تتقبل الأمر الواقع، في حال لمست وجود إرادة من قبل السلطة التنفيذية.
غير بعيد عن الملف الاجتماعي الذي يشكل مصدر توتر واضطراب عند تهديد السلم الأهلي، هناك أسبقيات الوفاق حول القوانين التنظيمية المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ففي هذه المسألة تحديداً لا يتم التعاطي عادة من منطلق الغالبية والمعارضة، بل إن البحث عن الإجماع يجنب الاستحقاقات أعطاب السير برجل واحدة. فثمة اتفاق على احترام شروط النزاهة والحياد. وفي حال تطلب التوصل إلى صيغة وفاقية مزيداً من المشاورات، فإن ذلك لا يناقض المسار الطبيعي للتجربة، خصوصاً أن إقرار النظام الجهوي الذي يمنح المحافظات صلاحيات أوسع في التدبير المحلي وتفويت اختصاصات السلطة المركزية، يشكل خياراً استراتيجياً، يحتم الإحاطة بكافة الثغرات المحتملة. وغير خاف أن الفيضانات الأخيرة التي ضربت مناطق عدة في البلاد وجرفت الأرواح والممتلكات والبيوت وأتلفت محاصيل زراعية، أظهرت هشاشة في منظور الديموقراطية المحلية، وفوارق شاسعة غير مقبولة بين الفئات والمجالات.
تطول قائمة الملفات التي يمكن استيعابها عبر الوفاق والإجماع، خصوصاً في قضايا مثل إصلاح التعليم ومنظومة القضاء ومعاودة هيكلة البنيات الاقتصادية، غير أنه في المحور السياسي بدا لافتاً أن جنازة الراحل عبدالله باها جمعت كافة الفصائل، وضمنها جماعة «العدل والإحسان» المحظورة وتيار السلفيين الذي لم يتبلور بعد في شكل تنظيم سياسي، إضافة إلى فعاليات يسارية.
إذا كان الموت الذي غيب وزير الدولة المغربي جمع كل هذه الأطياف، فلا أقل من أن تستمد النخب السياسية في المعارضة والموالاة من اللحظة جوانبها المشرقة، ذلك أن جماعة «العدل والإحسان» لا تزال خارج مربع الشرعية الحزبية، وإن كانت تتصرف إزاء القضايا المطروحة كحزب سياسي يسجل المواقف ويقترح الحلول البديلة من منظور الجماعة الإسلامية، وبالتالي فإن فتح حوار صريح لمعالجة حالة الشرود هذه، يصبح من أولويات حكومة رئيس الوزراء عبد الإله بن كيران الذي لم يفوت الفرصة، يوم دعا الجماعة إلى الاختيار بين الشارع ودولة المؤسسات. وعلى رغم أن رد «العدل والإحسان» لم يتسم بمجاراة الطرح الحكومي، فإن ما من خلافات حزبية تلغي وجود الجماعة كقوة قائمة بذاتها.
روح الوفاق التي هيمنت على أجواء الحزن على فقدان رجل دولة، في إمكانها أن تعوض الخسارة بربح رهان الوفاق السياسي الكبير. وتلك أهم التحديات المطروحة التي يمكن مجابهتها بأسلوب الحوار والإقناع والاقتناع الذي ميز حياة الراحل عبدالله باها. ومن زمان قيل أن الرجل هو الأسلوب. وما السياسة غير أسلوب في الحكم واستيعاب الدروس وأخذ العبر.
*كاتب صحفي/”الحياة” اللندنية