في ظل فلسفة الجري وراء زيادة المقروئية والمشاهدة لوسائل الاعلام العربية المختلفة، تنحدر معظم هذه الوسائل في بحر عقيم من الإثارة الرخيصة بأنواعها، غير مدركة أن المصداقية والعمل الدؤوب الذي يحترم المواطنين ويقدم لهم خدمات راقية، هو الطريق الأضمن للوصول إلى هدف زيادة الانتشار.
مناسبة الحديث، هو خروج قناة تونسية مغمورة، عبر توليفة رخيصة، كانت “مشاهد24” السباقة إلى فضحها والتحذير منها، بقصة متهافتة في جميع عناصرها، وبطريقة يمكن لطلبة المرحلة الابتدائية اكتشافها، لتقول لنا أن الأجهزة الأمنية المغربية هي التي تقف وراء حوادث تونس الإرهابية، بهدف زعزعة استقرار هذا البلد الجار.
للمزيد: من تونس هذه المرة: زوبعة مرتقبة في فنجان المدعو هشام بوشتي!!
ولأن عناصر الخلل في رواية القناة المفبركة تستعصي على الحصر، فسنكتفي بإستعراض أبرزها بما يسعنا من اختصار، كونها لا تستحق أكثر من هذه المساحة:
- الاعتماد مرة أخرى على عميل دون أية صفة حقيقية، والإصرار على تقديمه بصفة ضابط مخابرات، مع أن القاصي والداني يعلم أنه مجرد “مجند” بسيط، عمل كعنصر حراسة في جهاز القوات المساعدة البعيد عن عالم المخابرات تماما، ويتعلق الأمر بالمدعو هشام بوشتي، الذي يدعي العلم حتى “أيان تقوم الساعة”، من خلال الوثائق التي يزورها برداءة واضحة، وتصر منابر الإثارة على اعتماد وترويج منتجات هذا العميل تحت الطلب، في ضرب صارخ لكل معيار أو مصداقية.
- الإصرار على تصديق أن الأجهزة الأمنية المغربية تتبادل رسائلها بلغة عربية فصيحة، مع أن القاصي والداني يدرك أن هذا الأمر أبعد ما يكون عن الواقع، حيث أن كل المراسلات، حتى العادية منها، تتم بلغة فرنسية سليمة، لا يتقنها المزوّر المدعو بوشتي.
- الأضحوكة الجديدة المتمثلة في عبارة مرت دون تمحيص، هي “الختم الملكي” التي تقول القناة أن الوثائق قد ختمت به. فأن تقصد القناة بذلك هو وجود الأسدين اللذين هما شعار المملكة، وشعار الكثير من أجهزتها الإدارية فهذا جهل بالغ، أما أن يكون قصدها ما تحاول الإيحاء به بأن الختم يخص القصر ومستشاريه فتلك أضحوكة تدعو للرثاء، إذ كيف يعقل أن يكون ختم الملك موجودا على وثائق تخص موظفين في أجهزة الإدارة المختلفة؟ ألهذه الدرجة يعتقدون أن الملك لا يجد ما يصنعه رغم جولاته التي لا تهدأ في أقاليم الممكلة المختلفة، ليحرص على وضع ختمه على مراسلات عناصر المخابرات!!
- طابع “النبوءة” الذي تحمله مختلف الوثائق المزورة التي يصدرها المدعو بوشتي حسب الطلب. فهي من التفصيل والدقة بحيث ينقصها أن تحمل أسماء الضحايا المحتملين من الأجانب الذين قضوا في التفجيرات، بدرجة يعجز عنها الأنبياء أنفسهم، وهو طابع فج لا يشكك سوى في السوية العقلية للمصدقين بما تحمله من ترّهات.
- إنكار الجهود المغربية الهادفة إلى جلب الاستقرار في دول المغرب الكبير، كمصلحة مغربية أولا، وكإلتزام أخلاقي ثانيا. إن رعاية المغرب لجهود المصالحة في ليبيا دون الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، وحتى لو نحينا البعد الأخلاقي، فإن من شأنه أن يجلب استقرارا يعود على المغرب بالنفع الكبير، كمكان للعمالة المغربية المدربة، ووجهة للسياحة الليبية الغنية. وبنفس المنطق، فإن تونس المستقرة يمكنها أن تشكل سندا وحليفا للمغرب في مواجهة نظام جزائري متعنت، كما يمكنها أن تشكل ساحة اقتصادية قوية للمقاولات المغربية الكبرى، بينما لن يترجم هجران السياح الأجانب لتونس زيادة في سياحة المغرب، لاختلاف المنتجين كما يعلم ذلك خبراء السياحة. بل وحتى الجزائر، فإن استقرارها هو مصلحة مغربية عليا، لأن الجار القوي المتفهم أفضل بما لا يقاس من الجار الضعيف المتعنت، كما أن إلحاحها في كل مناسبة على ضرورة فتح الحدود في وجه التواصل الحر بين الشعبين الشقيقين يعكس فهما مغربيا متميزا، لا يوازيه للأسف تفهم مقابل، بأن أي اضطراب، لا قدر الله، في الجزائر، سيكون المغرب أول من يدفع ثمنه، ولنا في سوريا وجوارها خير دليل على ما نقول.
- الإصرار على خرافة أن ما يحمي استقرار المملكة هو نوع من “التواطؤ” المفترض بين أجهزتها الأمنية ومنظمات الإرهاب المنتشرة في بلدان الجوار، من قبيل القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. هذه النظرية المتهافتة هي المعني الأول والأخير بكل هذه الحملة من التزوير والأكاذيب. نقول متهافتة، لأن هذه الأجهزة بالذات لا تملك الموارد النفطية التي لدول المغرب الكبير الأربعة الأخرى، كما أنها “قدرات” لا يختص بها المغاربة دون غيرهم، إذ لو كانت هذه التنظيمات الإرهابية تشترى بالمال وتعمل وفق توجيهات الأجهزة الأمنية المغربية، لحقّ لنا التساؤل: وما الذي يمنع أجهزة المخابرات المغاربية من شرائها بدورها؟ ألم تتكشف علاقات الجنرال حسان وجهاز مخابرات الفريق مدين (توفيق) بالتنظيمات الإرهابية التي ترتدي مسوح الإسلام؟ ثم ألم تثبت الجهود الأمنية المغربية التي حظيت بشهادة فريدة على نجاعتها من لدن نظيرتها الفرنسية والبلجيكية والمالية، وذلك في أعقاب تفجيرات باريس ومالي، بطريقة لم تدع مكانا للشك، أنها منخرطة بصدق في المعسكر المعادي للإرهاب؟
أخيرا، إن الانشغال بإرسال فرق تصوير تحاول إيهامنا بأنها بذلت جهدا مضنيا في هذا النوع من “الصحافة الاستقصائية”، وأمضت شهورا تبحث عن المدعو هشام بوشتي الذي يعلم القاصي والداني كيفية الوصول إليه خلال ساعات، لدليل على بؤس العقلية التي تقف وراء توجيه مثل هذا العمل، ناهيك عن تغذيته “لثقافة” لا تفيد أي تونسي في هذه المرحلة ولا غيرها، كونها، كأي رسالة إعلامية تعتمد الإثارة الرخيصة كفلسفة، تسيء إلى التونسيين الذين اختارت أن تخاطب غرائزهم لا ما حباهم به الله من عقول.
لقد أثبت الملك محمد السادس لمن أراد أن يرى الواقع كما هو، مدى المحبة التي يكنها لهذا الشعب، عبر الزيارة التاريخية التي قام بها لهذا البلد الجريح، وهو الموقف الذي يعترف به معظم التونسيين، بشكل لا يمكن لعمل بمثل هذه الوضاعة أن ينال منه.
إقرأ أيضا: دروس الزيارة الملكية لتونس: السياسة شجاعة وأخلاق (3)
إن ما يفيد تونس والتونسيين هو أن تنكب أحزابه ووسائل إعلامه ونخبه المختلفة على دراسة الأسباب الحقيقية للاستقرار في المغرب، وجاذبيته الاستثمارية، ونجاعة مقارباته الأمنية، ونضج مواطنيه، وحيوية طبقته السياسية، لأنهم بهذه الطريقة فقط، يمكن أن يتقدموا إلى المرتبة التي تستحقها هذه البلاد العظيمة وشعبها المبدع، أما التخبط في “أفلام” رديئة السيناريو والإخراج، فلن يجلب لهم إلا مزيدا من الاحتقان والاستقطاب، ويحرفهم عن كل ما فيه مصلحة البلاد والعباد.