بينما أنا غارق في بحر الأفكار جائتني فكرة رائعة فلم أتأخر في إخراجها للوجود وعلمت أنها ستكون مفتاح فك شفرة إنطواء هذا الطفل وعزلته فقلت له محاولا أن أبهره وأن أحظى بكل إهتمامه وإنتباهه “أتعلم أنني أستطيع أن أخفي الأشياء وأرسلها إلى أماكن بعيدة لا أحد يمكنه أن يعيدها من بعد” هنا نجحت في إقناعه وفي إثارته فقال لي “واو أحقا يا عمو” أجبته بسرعة نعم نعم ماذا تريدني أن أخفي نظر من حوله كأنه يبحث عن شيء ما ورجوت الله في سري أن يختار شيء خفيف يسهل معي أن أخفيه بسهولة فركز نظره على المزهرية فقلت حلها سهل بحركة بسيطة وبإيحائات مدروسة أشتت بها تركيزه أستطيع أن أخفيها بسهولة وبالفعل قمت بإخفائها بمهارة حتى أن الولد فتح فمه مستغربا وهو يحرك رأسه يمينا ويسارا يبحث عن المزهرية وفجأة وبلا شعور منه تنهد الولد بعمق وقال بصوت خافت “يا ليتك عمو تخفي (عصام بيدرة) ولا أراه في طريقي مجددا”…
أخيرا وجدت مربط الفرس فبالرغم أن الولد قال هذه الجملة التي خرجت منه بلا إرادة ولا تفكير وقالها بصوت خافت إلا أن حواسي وتركيزي كان كله منصبا على حركات الفتى وعلى كلامه العفوي إذن الأمر كله يتعلق بهذا المسمى (عصام بيدرة) من يكون وما سبب هذا الخوف الهائل الذي يحمله الولد إتجاهه لغز أخر يجب عليا حل شفراته وأسراره الأن بقيت خطوة أخيرة وسأقوم بها الأن كانت عندي علبة شوكولاتة كنت محتفظا بها مخبئة في الغرفة أقضم منها قطعة قطعة بكل حرص وعند الضرورة فقط كإنخفاض الضغط عندي أو عندما أكون بحالة راحة نفسية أقوم بتلذذها كيف لا والعلبة أجنبية أتت من وراء البحار من بلاد النور أعلم أن الأطفال لا يقاومون الشوكولاطة ولا حتى أنا ولجعله يتحدث بأريحية ويركز إهتمامه على مذاق الشوكولاطة ولكي لا تعود له حالة الخوف والهلع والصمت لجأت لهذه الحيلة أخدت قطعة كبيرة من الشوكولاطة وجلست أمام الولد فقلت له مباشرة وأنا أكره (عصام بيدرة) هذا طفل ثقيل الظل تجمد الطفل فجأة في مكانه كأنما لسعته أفعى سامة فور سماعه إسم “بيدرة” فسارعت إلى إخراج القطعة وأعطيتها إياه وأنا أبتسم نظر الطفل إلى الشوكولاطة وأخذها بلهفة وقلت له أليس كذلك كي أشجعه على الكلام فأجابني وهو يقضم القطعة ويتلذذ بمذاقها حتى أنا أكرهه يا عمي فتصنعت المفاجأة وسألته أنا مستغرب حتى أنت تكرهه ماذا فعل لك هذا الولد المكروه رد علي وهو منشغل بالأكل بعفوية الأطفال يعترض طريقي كل يوم أثناء الإستراحة في المدرسة يأخذ مصروفي اليومي وطعامي ويقوم بتعنيفي وضربي شعرت بالدم يغلي في عروقي وإنتابتني موجة عارمة من الغضب…
كتمت هذه الثورة من الغضب لأني مازلت أحتاج إلى أن أعرف هوية هذا المجرم خرج صوتي خافت مليء بالشفقة على هذا الفتى ورغم أني حاولت كتمان مشاعري وقلت له معاتبا بلطف “ولما لم تخبر والدك عن الأمر” أجابني وهو ما يزال تحت تأثير حلاوة الشوكولاطة كان يهددني بسكين يضعه على رقبتي حتى تدمى ثم أزاح “ياقة قميصه” وأراني أثار السكين على رقبته فأقسمت حينها أن ألقن هذا الحݣار درسا لن ينساه طوال حياته وأن أذيقه بعض العذاب الذي أذاقه لهذا الصبي المسكين… مع مجموع هذه المعطيات وهذا الإعتداء السافر سألت الفتى بحذر ألم يطلب منك شيء قبيح لكي تفعله معه أجابني وهو يتأفف فلقد إنتهت قطعتي وسارعت إلى إعطائه قطعة أخرى أمسكها بلهفة جديدة وكأنه لم يأكل أي قطعة سابقة وقال لي لا يا عمو “بيدرة” لا يريد إلا المال والطعام حمدت الله مرة أخرى فهذا الولد بعزلته وإنطوائه على نفسه كان من الممكن أن يتعرض إلا ما هو أكثر من التنمر والعنف المعنوي والجسدي فالحمد لله على لطف الله هنا كان على “السي الشريف مول البركة” أن يقوم بعمله فأمسكت بيد الفتى وأنا أنظر إلى عينيه مباشرة وأقول له هل تحب أن تضرب “بيدرة” وتنتقم منه وفجأة تحول الصبي إلى رجل وبرقت عيناه ببريق أخافني حتى أنا وقال لي وكله إصرار وعزيمة أجل يا عمو أريد أن أوجعه ضربا وأذله كما أذلني تعجبت من تحول مشاعر هذا الطفل خلال هذه الساعة التي جلس معي فيها حيث تأكدت أنه لا أحد يرضى بالذل والمهانة إلا إذا غرسها فيه أهله ومجتمعه رغما عنه…
إذن أخبرني ما إسم مدرستك وأين تقع؟ أخبرني الولد بحماسة محارب عاد من الموت لينتقم من أعدائه وسألته عن المستوى الدراسي لـ “بيدرة” فرد علي قائلا أنه في السادس إبتدائي إلا أنه قد رسب في هذا القسم سنتين غير السنوات التي درسها في الأقسام الأخرى واستغربت من هذه الإجابة فبعملية حسابية بسيطة تكتشف أن هذا المتنمر لا تنقصه إلا زوجة ليصبح رجل عصابات محترف فكيف يمكن جمع فتى بالغ منحرف مع أطفال أبرياء صغار ما هذا المنكر يا رباه ونظرت إلى الفتى وقلت له الأن ساعة الحسم جاء وقت الإنتقام والإنتصار ولكن عليك بأن تلتزم بخطتي وتطبقها بحذافيرها حتى تهزم بيدرة شر هزيمة نظر إلي نظرة الرجال وقال بصوت قوي أنا معك ولم يقل هذه المرة يا عمو فعرفت أنه سيبهرني غدا شرحت للفتى الخطة كاملة واستوعبها بسرعة فائقة والشيء الجميل الذي أعجبني في الأمر كله هو أن هذا الصبي المظلوم الذي عذب طوال سنوات عادت إليه الروح من جديد وعادت غريزة البقاء التي تولد مع البشر لتسيطر على فكره وعلى عقله وأدخل نفسه في نادي المحاربين من أجل البقاء وفرض الذات والشخصية نظرت إلى صديقي الجديد وقلت له إستعد يا بطل سوف تخرج إليهم الأن لا تخبر أحد بما دار بيننا هنا والأخص بخطتنا للقضاء على “بيدرة” وإن سألوك ماذا صنع السي الفقيه معك أخبرهم كما علمتك أجابني الولد وعينيه كلها إمتنان حاضر يا عمو إطمئن وأول ما خرجنا من الغرفة زغردت أمي وصلت على رسول الله أما أم الولد فقد أطلقت صرخة قوية ثم سقطت مغشيا عليها…يتبع