هدية ثمينة، تلك التي حصل عليها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي داخل وخارج الجزائر، ممن يدورون في فلك جنرالات البلد المدنيين والعسكريين، أو من يناصبونهم العداء، والمتمثلة في التسجيلات الصوتية المنسوبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وأركان نظامه. ثمينة لأنها ستشكل مادة للجدل والتحليل بطريقة ستعفيهم عن البحث لأيام، وربما أسابيع، قادمة، عما يناقشونه من شؤون هذا البلد المنكوب بجنرالاته، في انتظار الانشغال بزيارة الرئيس تبون إلى العاصمتين الروسية والفرنسية، إن تمت هاتين الزيارتين أصلا!!
بداية، ورغم الشبه الشديد لصوت المتحدث في التسجيلات بصوت الرئيس ماكرون، يعلم الجميع أن احتمال صحة نسبتها إليه، أو “فبركتها” بواسطة برامج الذكاء الصناعي متساوية، أي تتقاسمان نفس النسبة تقريبا (50/50). وبالتالي، لا تستحق هذه المسألة بذل أي جهد يذكر لترجيح أي من الفرضيتين، ومن العبث إضاعة الوقت في محاولة حسمها. أما الأهم، فهو محاولة الإجابة على السؤال الجوهري: إذا افترضنا صحة التسجيلات، فمن قام بتسجيلها ونشرها، وما هدفه، ومن المستهدف منها؟ وإذا افترضنا “فبركة” التسجيلات، فمن قام بتزويرها ونشرها، وما هدفه ومن المستهدف منها؟ وسنحاول، كالعادة، الاهتمام بما هو مهم، ونترك الخوض في اللغط الذي يحرف اهتمام المتابعين إلى مساحات تخلو من أي قيمة.
في الحالة الأولى (صحة نسبة التسجيلات للرئيس ماكرون)، وفي سعينا للإجابة على الأسئلة السابقة، ستطالعنا أسئلة فرعية لا تقل أهمية، من قبيل: هل تم التسريب برغبة الرئيس وجناحه في السلطة الفرنسية أم دون استشارته؟ فمن المعلوم، أن الطبقة الحاكمة في فرنسا -مثلها مثل باقي الدول- تتكون من عدة أجنحة، تمثل السلطة محصلة تجاذب القوى بينها، مع التسليم بوجود تيار أقوى في كل مرحلة، دون إقصاء الأطراف الأخرى. وبالتالي، فهناك أطراف أكثر استفادة من هذه التسريبات من أطراف أخرى، ويهمها أن تضعف أو تحرج جناح الرئيس تبون داخل النظام الجزائري، الذي ينظر إليه على انه أكثر ميلا لروسيا! وعليه، فالحديث عن “سذاجة” الرئيس تبون “وعجزه” عن اتخاذ أي قرار (تؤكد تصريحا سابقا لماكرون حول احتجاز الرئيس رهينة لجنرالاته)، والقول بأن الجزائر أصبحت “سوق خردة للسلاح الروسي”، يوافق هوى “الجناح الفرنسي” وسط جنرالات الجزائر؛ مع ملاحظة أن توقيت التسريب قبل أيام من زيارة مرتقبة لتبون إلى روسيا، وصفقات السلاح المنتظر إبرامها خلال الزيارة، تضع أسئلة كثيرة حول هوية من يقف وراء التسريبات؛ حيث تتجه الأصابع أولا إلى الأطراف المحتملة داخل النظامين الفرنسي والجزائري، من مناوئي الجناح الجزائري “الروسي”. ويمكن للبعض أن يوسع الدائرة لتشمل أطرافا فرنسية، ممن يفضلون خلق أزمة في علاقة فرنسا بمستعمرتها السابقة، لتبرير إدارة الظهر للنظام الجزائري “الفاشل”، وتلبية شروط المغرب لتحسين العلاقة مع فرنسا. وهنا، يمكن أن تكون الأطراف الفرنسية المعنية بالتسريب قد قامت بذلك مباشرة، أو بإيصالها لوكلائها في الجزائر لتولي المهمة.
كما يمكن إضافة سيناريو آخر، يتعلق بوجود “اختراق” للاستخبارات الفرنسية، بواسطة جهات ترغب في تأزيم علاقة فرنسا مع الجزائر، وهو ما سيصب في النهاية في مصلحة روسيا وجناحها داخل النظام الجزائري.
هذا التحليل ربما يصلح بنفس الدرجة، حتى مع افتراض أنها تسجيلات “مفبركة”، حيث إن الأطراف المحتملة للوقوف خلف التسريبات، وتلك المستهدفة بها، تبقى نفسها، وتشمل طيفا واسعا من الأجنحة المتصارعة داخل النظامين الجزائري والفرنسي.
لكن، وبعيدا عن هذا البحث “الاستخباراتي”، وبالعودة إلى محتوى التسريبات نفسه، سواء صحت نسبتها إلى الرئيس ماكرون أم لم تصح، ألا يمكن القول باطمئنان شديد، إنها كانت “محقة” تماما، ولم تجانب الصواب عموما، وإن كانت أخطأت -كما الكثيرين في أوروبا- في تقدير أهمية الجزائر “طاقيا” لفرنسا وأوروبا؟! لقد وضع الرئيس تبون نفسه في موضع التندر بسبب “خفّته” وحبه للظهور الإعلامي، وعدم توفره على أي ميزة تؤهله لاحتلال هذا المنصب، أي أنه قبل طائعا أن يكون “ألعوبة” في يد الجنرالات العسكريين، الذين لن يسمحوا له “بعهدة ثانية”، ولن ينقذه منهم سوى التصريح بعدم رغبته في الترشح للانتخابات المقبلة!! فمشهد الهجوم على تبون، وإهانات العسكر المتكررة له، وآخرها خلال زيارته “المرتجلة” إلى البرتغال، تذكرنا بوقوف الجنرال العماري ورفاقه ضد العهدة الثانية للرئيس الراحل بوتفليقة (2004)، وهو ما تكرر خلال العهدة الرابعة عام 2014، عندما وقف ضدها الجنرال توفيق بشكل علني، وعبر عن رغبته في وضع علي بن فليس مكان الرئيس المريض، لمنح النظام فرصة اللعب لأطول فترة ممكنة مع الشعب الجزائري.
إن الانتقادات المتكررة للرئيس ماكرون تجاه الرئيس تبون، توحي بأن هناك توافقا بين الجناح المتنفذ في فرنسا، وتابعيه في الجزائر، على ضرورة “تصحيح” خطأهم المتمثل في السماح بوصول تبون إلى سدة الرئاسة، وبالتالي منعه من عهدة ثانية. أما باقي التسريبات التي تتحدث عن هشاشة “اقتصاد الريع النفطي” الجزائري، وأن سنواته قد أصبحت معدودة أمام تعذر إصلاحه، وتحول أوروبا إلى الطاقات المتجددة، فهو مما يعلمه القاصي والداني داخل الجزائر وخارجها، ولن تنجح “أرقام” الرئيس تبون الخادعة في التغطية عليه.
وبخصوص الجزئية الخاصة بقوة المغرب، وقدرتها على “اجتياح أو التهام” الجزائر في زمن قياسي فهي حقيقة أخرى، ربما تبرر لجنرالات فرنسا في الجزائر التخلي عن معظم “الخردة” الروسية التي ينوون شراءها، و”تحفّزهم” على استبدالها بالأسلحة الفرنسية “الحديثة”! وفي هذا السياق، تبدو عبارة ماكرون حول أن المغرب “مشغول بأمور أخرى” حاملة لأكثر من إشارة، وقابلة لأكثر من تأويل، وإن كان الأهم بالنسبة لفرنسا وجناح ماكرون تحديدا، هو ما تنشغل به المملكة المغربية داخل مستعمرات فرنسا السابقة، وباقي مناطق نفوذها في القارة السمراء!!
ماذا بعد؟ وسواء صحّت نسبة التسجيلات إلى الرئيس ماكرون أم لم تصح، فإن الأطراف المتضررة منها هي أجنحة السلطة الجزائرية “الهشة”، والتي توجد في مأزق شديد عنوانه كيفية الرد على تصريحات ماكرون، يليها في الضرر أجنحة الحكم الفرنسي، التي تظهر التسجيلات تزايد الاحتقان والاستقطاب وسطها، و “تضخّم عقدة المغرب” فيها.
أخيرا، يبدو المغرب كرابح وحيد في هذه الأزمة، دون أن يكون طرفا مباشرا فيها، وهو ما سيقوي موقعه في مواجهة فرنسا و “صبيانها” في الجزائر، ويرشح العلاقة المغربية الروسية لمزيد من التحسن، والأيام ستكشف قريبا ما سوى ذلك من منافع!!