كما جرت العادة سنويا، تثير وسائل الإعلام العربية لغطا مبالغا فيه، وتجتهد في إسماعنا جعجعة “القمة العربية” دون أن نرى طحينها أو خبزها، وذلك ببساطة، لأنها -منذ البداية- لا تطحن قمحا ولا شعيرا! هذا الأمر، مرتبط أساسا بطبيعة الإعلام العربي وأدواره المرسومة من جهة، وبفلسفة العمل الإعلامي نفسه القائم على الإثارة من جهة أخرى، دون التنبّه إلى التغيّر العميق الذي طال الرأي العام العربي، الذي أصبح يتعامل مع هذه القمة -ومنذ زمن بعيد- بأنها “لا حدث” بامتياز!! وانصرف عنها إلى ما ينتجه ويستهلكه من “إعلام شعبي مواز” على وسائل التواصل الاجتماعي.
هنا، من المناسب أن نرى انعكاس ما سطرناه سابقا، على تعامل الإعلام المغربي ونظيره الجزائري، كمثال، على “الاحتراف والهواية” في التعامل مع هذا اللا حدث. فالمغرب، ومنذ قرابة عقدين، أدرك وأعلن على الملأ، قناعته بأن هذه المؤسسة (جامعة الدول العربية) وما تدّعي ممارسته من عمل (العمل العربي المشترك)، وآليات ممارسة هذه الأعمال (اجتماع القمة السنوي)، وإن آمن بها على الصعيد النظري، فإنها أبعد ما تكون تجسيدا على الصعيد العملي. وعليه، توقف العاهل المغربي محمد السادس عن ترؤس وفد بلاده إليها، مع حرصه على إرسال من ينوب عنه في هذه المهمة، وذلك دون أن يخفي ما سقناه من ملاحظات. ويأتي الغياب المتكرر للملك محمد السادس، منسجما مع تراجع أهمية “لا حدث” القمة العربية بالنسبة للرأي العام المغربي، لاسيما بعد أن غيب الموت كبار المؤثرين “والمهرجين” من القادة العرب، الذين تعودوا على “تنشيط” مشهد القمة السنوية بطريقة لا تخلو من طرافة، وإن كان ما تشهده من ضحك، كما قال المتنبي: “ضحك كالبكا”!!
في المقابل، نجد الرئيس الجزائري يعاني -ويعاني معه الشعب الجزائري- من نوبات “إدمان” الظهور الإعلامي، مما أهّله لتحطيم الرقم القياسي لأكثر المسؤولين -وليس فقط الرؤساء- العرب تصريحا لوسائل الإعلام، وظهورا عليها. وكم كان مؤلما عليه -والحالة هذه- أن “يُحرم” من حضور “قمة جدة”، بعد رسالة سعودية واضحة، بأن قمتهم المرتبة بشكل دقيق، لا تحتمل “خفّة” فخامته!! وما إنابته رئيس الوزراء أيمن عبد الرحمن عنه، لتسليم رئاسة القمة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والطلب منه مغادرة القمة مباشرة، وتسليم رئاسة الوفد الجزائري لوزير الخارجية أحمد عطاف، إلا دليل على ما ذهبنا إليه من “حرد” الرئيس الجزائري، واحتجاجه على الطريقة التي حرم فيها من عدسات المصورين في القمة العربية، و “التشرّف” بمصافحة بشار الأسد، رئيس “كارتل” الكبتاغون، والمورد الحصري له في وطننا العربي!!
ولم يقتصر “الاحتراف” المغربي على استمرار العاهل المغربي في الانسجام مع الرأي العام لشعبه، وبالتالي، التغيب عن حضور القمة العربية، بل تجلى في كونه أحد القلائل الذين اختاروا -كل لأسبابه- عدم إلقاء خطابات في الجلسة اليتيمة للقمة، وبالتالي وفّروا وقت المتابعين لها، بعدم إلقاء خطبة مكرورة كتبت بواسطة Chat GPT، كتلك التي استمعنا لها من قبل معظم من تحدثوا من “القادة العرب”. لكن، ورغم عدم إلقاء مولاي رشيد خطابا، فإنه التزم بحضور كامل فعاليات القمة، وعدم “التشويش” على جهود المضيف السعودي بشأنها، سواء لجهة حضور الرئيس السوري أو الأوكراني، كما فعل غيره.
ورغم انتهاء “لا حدث” القمة العربية، يستمر الإعلام الدعائي الجزائري في تكرار “كذبة” تغيب الرئيس تبون بسبب حضور الرئيس زيلنسكي، وفي ترداد مقولة أن السعودية قامت ببناء “نجاحها” في القمة على أكتاف “الجهود الجزائرية” التي بذلت خلال “أسابيع” ترأسها للقمة، سواء لجهة لم الشمل العربي -الذي لا يشمل بالضرورة المملكة المغربية- أو تحقيق المصالحة الفلسطينية -التي لم يرسل قادة فصائلها لبعضهم حتى رسالة قصيرة للتهنئة بعيد الفطر-، أو دعوة بشار الأسد لحضور القمة العربية -قبل أن يقدم على أي خطوة تبرر هذا الحضور-.
وحتى لا يدخل الرئيس تبون في “نوبة اكتئاب” بسبب تغييبه عن القمة العربية، سارع مرؤوسوه إلى تنظيم “قمة” سريعة وصغيرة مع الجارة البرتغال، بدون ترتيب مسبق، بغية منحه منبرا للحديث إلى وسائل إعلامه عن أهمية هذه الزيارة، وفائدتها الاستراتيجية في موازنة “الصدمة الإسبانية”، والتشويش على القمة المغربية البرتغالية التي سبقتها بأيام، وخرجت بتوقيع أزيد من 12 اتفاقية استراتيجية للتعاون والشراكة.
ختاما، فالأولى بمسؤولي الجزائر الاهتمام ب “حريرة” زيارتي رئيسهم إلى الخصمين الروسي والفرنسي، خلال الشهر المقبل، حتى تخرج هذه الزيارات بدون أثمان كارثية على هذا النظام الفاقد للشرعية الداخلية، وتعجل بالتالي برحيله المحتوم!!