بمرور الأيام، تتبدد الاحتمالات -الضعيفة أصلا- الخاصة بإمكانية عودة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والجناح الذي يدعمه، إلى “رشدهم”، فيما يخص العلاقة مع المغرب وسبل تحسينها. فلا زال العناد وتجاهل الواقع، بل وإنكاره، هو السمة الغالبة على سلوك وتصريحات رأس الجمهورية الفرنسية الخامسة، إما جاهلا أو مكابرا؛ جاهلا لمدى سوء موقف بلاده داخل مستعمراتها السابقة، أو مكابرا أمام حقيقة استحالة استمرار نفوذها الاستعماري القديم، سواء في مواجهة نزعة التحرر الإفريقية، أو “طابور” المنافسين الدوليين الأقوياء للنفوذ الفرنسي المتهالك!
ولعل ما يقوي الحكم السلبي السابق على مستقبل العلاقات الفرنسية المغربية، استمرار الرئيس ماكرون وداعميه في تأليب جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، على جيران الدم والكفاح، وارتفاع نبرة العداء السافر لدى الجارة الشرقية تجاه كل ما هو مغربي، ناهيك عن مكابرة قادة فرنسا ورفضهم، لبذل أي جهد حقيقي يستهدف محاولة جادة “لترطيب” الأجواء بين البلدين، رغم علمهم يقينا “بما يجب عليهم فعله” في هذا الصدد!
ندرك طبعا مدى صعوبة المطلوب “فرنسيا”، والذي يبدأ بالإقرار -لفظيا وعمليا- بانتهاء الحقبة الاستعمارية الفرنسية، وبالتالي القبول بما سيترتب على هذا الاعتراف من فقدان للمكاسب الناجمة عن نهب واستنزاف خيرات مستعمراتها الإفريقية، وهو ما يواجه بممانعة شرسة من تيار قوي داخل السلطة الفرنسية يمثله الرئيس ماكرون نفسه. كما سيكتب ذلك الاعتراف نهاية رسمية للجمهورية الخامسة، مثلما كتب الإقرار “الصوري” لفرنسا باستقلال مستعمراتها السابقة، نهاية جمهوريتها الرابعة!
إن استمرار محاولات “التذاكي” الفرنسية لتأجيل الإقرار بنهاية جمهوريتها الخامسة، تحت وطأة الاحتجاجات الداخلية المعبرة عن انتهاء صلاحية نموذجها الاقتصادي (دولة الرعاية في نسختها الفرنسية)، وكذا التمردات الخارجية المعبرة عن الرغبة الحقيقية لشعوب مستعمراتها الأفريقية في امتلاك زمام مصيرها، والتحكم بخيراتها، لاسيما في ظل التنافس الدولي الكبير على هذه الخيرات؛ كل ذلك لن يؤدي سوى إلى تفاقم فاتورة إنهاء هذه الجمهورية “منتهية الصلاحية”!! في المقابل، فسرعة ومدى الاعتراف “الشجاع” بهذه النهاية المحتومة، سيجعل فرنسا قادرة على الحلم بتكرار المعجزتين الألمانية واليابانية، في أعقاب اعترافهما “المرّ” بالهزيمة في الحرب العالمية الثانية. كما أن التاريخ يدعم مثل هذا الاعتراف، حيث لم تعمّر أي من جمهوريات فرنسا الأربعة السابقة أكثر من 70 سنة (الجمهورية الثالثة 1870-1940)، فهل نحن على بعد خمس سنوات -كحد أقصى- قبل أن نشهد تشييع الجمهورية الفرنسية الخامسة التي تأسست قبل 65 سنة، ويكون المغرب أحد الموقعين على شهادة وفاتها؟!
وبربط كل ما سبق، بمعركة فرنسا “المعلنة” تجاه المغرب، والتي بدأتها عمليا قبل قرنين من الزمن، خلال جمهوريتها الأولى، نقول إن الأوان قد أزف لتسليم فرنسا بأن “طول النفس” المغربي هو من انتصر في النهاية! لقد أدارت المملكة الشريفة، ملوكا ونخبا وشعبا، معركتها مع الاستهداف الفرنسي على امتداد قرنين بشتى الوسائل، على الرغم من اختلال موازين القوى بينهما لفترات طويلة، دون أن يغيب عن أعين المغاربة يوما، أن الهدف النهائي لهذه الحرب، هو الاستقلال الحقيقي للمغرب عن فرنسا، واسترجاع مكانته الحضارية التي استماتت القوى الاستعمارية من أجل هدمها.
إن استمرار “العناد” الفرنسي في التسليم بحق المغرب في التمتع بسيادته الوطنية، ووحدته الترابية، والأهم، دوره الحضاري في محيطه الإقليمي والقاري، سيرفع سقف التحدي ويصعّب من إمكانية التفاهم والبحث عن حلول وسط بين المغرب وفرنسا؛ وسيحول هذه “الحرب” الفرنسية العبثية على المغرب، إلى حرب “تحررية” حقيقية، سيتم تسويقها على مستوى القارة الأفريقية برمّتها، على أنها “النموذج” لمعارك التحرر في عالم القرن الحادي والعشرين؛ لاسيما وأن البدائل المطروحة أمام الشعوب الأفريقية للانعتاق من هيمنة فرنسا والدول الاستعمارية التقليدية، يتمثل في المقاومة بواسطة قوات “فاغنر” الروسية، أو التنمية عبر “القروض والديون” الصينية، أو استبدال الهيمنة الفرنسية البريطانية بأخرى أمريكية!
وهنا، نؤمن بأن إصدار الأوامر من طرف “السيد” الفرنسي “لتابعيه” من جنرالات الجزائر، لإنهاء حالة العداء للمغرب، المستمرة منذ الاستقلال الصوري لهذا البلد العظيم، هي “الحد الأدنى” المطلوب مغربيا للتأكيد على حسن النوايا الفرنسية، وجدية قادتها في فتح صفحة جديدة في علاقتها بالمغرب، مع ما سيترتب على ذلك من كون الشعب الجزائري اول المستفيدين من “حرب التحرير” المغربية، بالتخلص من جنرالات فرنسا الجاثمين على صدره منذ سبعة عقود. أما محاولة الحصول على مقابل لورقة جنرالات الجزائر ومرتزقة البوليساريو “المحروقة”، فستعتبر دليلا على استمرار مكابرة قادة فرنسا وعدم جديتهم في التفاهم مع المغرب، حيث إن أوان دفع مقابل -أي مقابل- لهذه الأوراق المحروقة قد فات منذ زمن بعيد!!
ختاما، وسواء كتبت نهاية الجمهورية الخامسة بأيدي مواطنيها المحتجين في الشوارع الفرنسية، أو أحرار مستعمراتها السابقة، أو كبار منافسيها الدوليين الذين هم بصدد سحقها تماما، فإن أكبر خدمة يمكن تقديمها لهذه الجمهورية “الميتة” هي “سرعة دفنها”، حتى يتفرغ أبناؤها لفتح نقاش حقيقي حول مستقبلهم بعدها، في ظل جمهورية سادسة لا تستلهم شيئا من قيم وممارسات الجمهورية الراحلة. وسيتذكر الأفارقة دوما، الخدمة الجليلة التي قدمها المغرب بالمساهمة في تخليصهم من هذا النموذج الاستعماري الوحشي، الذي جثم على صدورهم لقرون، وغذّى الانقلابات والنزعات الانفصالية، وشوّه الحدود الجغرافية والإثنية، ونهب الخيرات واستعبد البشر؛ مع الأمل في أن يتمكنوا من بناء مستقبل أفضل لأبنائهم، يقطع مع الوكلاء المحليين للاستعمار، من عسكريين ومدنيين، ويبني نموذجا للتعاون الذي يؤمن الرفاه للجميع، ويفرض على اللاعبين الدوليين معاملتهم بما يستحقونه من ندية واحترام.